حتى تصير الفضيلة شعارا وملكة ، وحتى تصدر أعمال الخير من غير تعمل وروية. ومن لوازم الداعي والمرشد أن يكون شجاعا صادقا قوي الإيمان بما يدعو إليه يرى في الإقدام لذة ، وحقا للنفس الخيرة يؤديه احتسابا لله لا على أنه مكلف به ، يؤديه للأجر وزيادة الدرجات والمرتبات ، ومن حق الداعي أن يكون بصيرا بالوسط الذي يعيش فيه ، خبيرا بأحوال النفوس ، واسع الحيلة في التنقل من طريق إلى طريق ، يقصد إلى الهداية المطلوبة من طريقها النافع. وليس أفعل في النفوس من جلال تسكبه التقوى وملازمة حدود الله ، ومن جمال يلقيه العلم الناضج على صاحبه ، ومن هيبة يوجدها الإعراض عن الدنيا وعدم الحرص عليها ، وقد شاهدنا فقراء ليس لهم جاه رسمي ، ولا عزة عصبية ، يهابهم أصحاب المقامات الرفيعة والأموال المكنوزة ، وينكمشون أمام هيبتهم التي بسطتها التقوى وزانهم بها العزيز الحكيم.
والحرص على الدنيا يفسد على العالم لذة العلم ، ويفسد عليه الغاية التي يطلبها ، وهي الهداية ، والناس لا شك زاهدون في العلماء إذا رأوهم مقبلين عليها معرضين عن الآخرة. فلتكن الدنيا مطلوبة بالقدر الذي تستحقه ، وفي الدرجة التالية لدراسة العلم وتحصيله واللذة به نفسه ، وباعتباره وسيلة من وسائل الآخرة ، وطريقا لرضي الله ورسوله. ولقد كانت للأزهريين تقاليد متوارثة محمودة ، وهي عطف الكبير على الصغير ، وتوقير الصغير للكبير ، واحترام الأسلاف ، والصبر على الدرس والتحصيل ، وتفهم المسائل بعللها وأسبابها وما يتفرع عنها ويتولد منها ، لا يبالون في سبيل ذلك بالوقت والجهد ويرونه أكبر لذة للنفس وأكبر متاع للعقل ، ويرونه واسطة المجد وطريق الشرف والكرامة ، وكان طالب العلم إذا لم يفهم كتابا أعاده ، وإذا لم يفهم مسألة فتش عمّن يفهمها منه ، وكانت اجتماعاتهم لا تخلو من المذاكرة في مسألة من مسائل العلم ، وقد رأينا منهم من كان أهلا للتدريس وللتقدم للامتحان وكان يحجم لأنه يريد الاستزادة وتكميل النفس ،