ذلك ، وشغلت بما أنا عليه من التّدريس والتّأليف.
ثمّ خرجت عام تسعة وثمانين للحجّ ، واقتضيت إذن السّلطان في ذلك فأسعف ، وزوّد هو وأمراؤه بما أوسع الحال وأرغده ؛ وركبت بحر السويس من الطّور إلى الينبع ، ثم صعدت مع المحمل إلى مكّة ، فقضيت الفرض عامئذ. وعدت في البحر ، فنزلت بساحل القصير ، ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر الصعيد ، وركبت منها بحر النيل إلى مصر ، ولقيت السّلطان ، وأخبرته بدعائي له في أماكن الإجابة ، وأعادني إلى ما عهدتّ من كرامته ، وتفيّىء ظلّه.
ثم شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلتمش (١) فولّاني إياها بدلا من مدرسته وجلست للتدريس فيها في محرّم أحد وتسعين ، وقمت ذلك اليوم ـ على العادة ـ بخطبة نصّها :
الحمد لله إجلالا وإعظاما ، واعترافا بحقوق النّعم والتزاما ، واقتباسا للمزيد منها واغتناما ، وشكرا على الذي أحسن وتماما ، وسع كلّ شيء رحمة وإنعاما ، وأقام على توحيده من أكوانه ووجوده آيات واضحة وأعلاما ، وصرّف الكائنات في قبضة قدرته ظهورا وخفاء وإيجادا وإعداما ، وأعطى كلّ شيء خلقه ثم هداه إلى مصالحه إلهاما ، وأودع مقدور قضائه في مسطور كتابه ، فلا يجد محيصا عنه ولا مراما.
والصلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمّد نبيّ الرّحمة الهامية غماما (٢) والملحمة التي أراقت من الكفر نجيعا وحطّمت أصناما ، والعروة الوثقى ، فاز من اتخذها عصاما ، (٣) أول النّبيئين رتبة وآخرهم ختاما ، وسيّدهم ليلة قاب
__________________
(١) هكذا في الأصلين : «صلغتمش» ، ولعلها كانت تنطق باللام فسجلها ابن خلدون كما سمعها.
والمدرسة الصرغتمشية هذه الي تقع بجوار جامع أحمد بن طولون ، تنسب إلى بانيها الأمير سيف الدين صرغتمس الناصري أمير رأس نوبة ، المتوفى سجينا في الإسكندرية سنة ٧٥٩. وفي خطط المقريزي ٤ / ٢٥٦ ـ ٢٥٨ طبع مصر ، حديث مفصل عنها ، وعن بانيها صرغتمش المذكور.
(٢) همت السماء : أمطرت ؛ والغمام : القطر نفسه.
(٣) العصام : رباط كل شيء. من حبل ونحوه.