هذه المجالس ، ومما لا شك فيه أن هذه المناظرات أدت إلى رواج الحركة العلمية لأن المناظرة إذا كانت تتم أمام خليفة أو أحد كبار رجال الدولة ، فأن المشتركين فيها يحرصون على إتقان مادتها العلمية حتى يدعم رأيه بالأسانيد المعقولة والمقبولة ، ويحظى بتقدير الحاضرين ، وكان للخلافات فى الرأى التى تحدث بين رجال العلم أثر كبير فى تقدم الحركة العلمية ، ذلك أنها شجعت العلماء على مواصلة البحث والدرس ، وإعداد أنفسهم حتى لا يخذلوا فى مجلس المناظرة مما يسئ إلى سمعتهم ومكانتهم (١).
والواقع أن الخلفاء العباسيين لم يألوا جهدا فى سبيل تشجيع الحركة العلمية فكان الرشيد من أبلغ الناس كلاما ، وأحسنهم نطقا وأكثرهم علما وفهما ، كتب إلى ولاة الأمصار كلها وإلى أمراء الأجناد يطالبهم بتشجيع العلم وأهله فقال : فانظروا من التزم الأذان عندكم فاكتبوه فى ألف من العطاء ، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم ، وعمر مجلس العلم ومقاعد الأدب ، فاكتبوه فى ألف دينار من العطاء ، ومن جمع القرآن وروى الحديث ونفقه فى العلم فاكتبوه فى أربعة آلاف دينار من العطاء واسمعوا قول فضلاء عصركم وعلماء دهركم.
وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ـ وهم أهل العلم ـ وبلغ من تشجيع الرشيد للعلم والتعليم أن الغلام كان يحفظ القرآن الكريم وهو ابن ثمان سنين ويتبحر فى الفقه ويروى الحديث ، ويناظر المعلمين وهو ابن أحد عشر عاما (٢).
وكان المأمون أعلم الخلفاء بالفقه والكلام وله عدة رسائل (٣) لذلك شجع العلماء على مواصلة البحث والدرس ، وعنى بمجالس المناظرة ، فكان يدخل عليه من العلماء الفقهاء المتكلمين جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته وأختير له من الفقهاء لمجالسته مائة رجل ، وناظرهم وناقشهم كثيرا ، حتى وقع اختياره على أفضلهم فكانوا عشرة فقط (٤).
__________________
(١) ابن طيفور : مناقب بغداد ص ، ٣٦
John : Giubb The Empire of the Araba p. ٩١٣.
(٢) ابن قتيبة : الأمامة والسياسة ج ١ ص ، ٩٩
(٣) ابن النديم : الفهرست ص ، ١٦٨
(٤) ابن طيفور : مناقب بغداد ص ، ٣٦