لذلك نرى إنه لا صحة لما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن الخلفاء تجاهلوا العرب. واعتمدوا على الفرس اعتمادا كاملا ، بل كان الخلفاء العباسيون يحرصون على رفع منزلة العرب ، ويأنفون من إذلالهم ، فيروى الطبرى (١) أن المنصور رأى خادما له من أصل عربى سبى من اليمن ، وبيع إلى بعض بنى أمية ثم إلى المنصور فاعتقه المنصور وقال : لا يدخل قصرى عربى يخدم جرمى ، وأقدم على الهادى شهود على رجل أنه شتم قرشا ، فجلس الهادى مجلسا فيه فقهاء أهل زمانه ، ومن كان بالحضرة على بابه وأحضر الرجل ، وأحضر الشهود ، وأقروا بما سمعوا عن الرجل فقال الهادى : إنى سمعت أبى المهدى يحدث عن أبيه المنصور عن أبيه على بن عبد الله بن عباس قال : من أهان قريشا أهانه الله.
وعاقبه الهادى أشد عقاب (٢). وحتى الخليفة المأمون الذى تأثر كثيرا بالفرس لما اعترضه رجل من العرب وقال له : يا أمير المؤمنين أنظر العرب كما نظرت لأهل خراسان قال المأمون : والله ما أنزلت قيسا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق فى بيت مالى درهم واحد (٣). وحتى الفرس على الرغم مما بلغوه من حظوة فى بعض فترات الحكم العباسى ظلوا يعتقدون أن العنصر العربى أفضل منهم.
بدليل أنهم احتاجوا فى كثير من الأحيان إلى الانتماء إلى العرب بالولاء حتى أصحاب المكانة الكبيرة منهم ، فأبو مسلم الخراسانى يزعم أنه من أصل عربى حتى يحظى بتقدير الناس وتأييدهم ، فادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس (٤) وحمزة بن ميمون ـ أحد المقربين إلى المهدى ـ يغضب ويعاتب الخليفة حينما قدمه إلى أحد جلسائه القرشيين على أنه مولى (٥). وإسحاق الموصلى ذهب إلى خازم بن خزيمة ـ وهو عربى ـ وطلب منه أن يكون مولى له ، فيقبل ذلك منه (٦)
ومهما يكن من أمر فقد ظهر فى بغداد منذ نشأتها عنصران رئيسيان من سكانها
__________________
(١) تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٥٨ ه.
(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٦٩.
(٣) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ٢١٨ ه.
(٤) المصدر السابق حوادث سنة ١٣٧ ه.
(٥) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ١٤٢.
(٦) الأصفهانى : الأغانى ج ٥ ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠.