كانت شخصية المأمون تخالف شخصية الأمين ، فقد عرف المأمون منذ حداثته بالجد والحرص على طلب العلم والتفقه فيه حتى أصبح حجة فى المسائل العلمية والفلسفية ، ولما قدم بغداد ظل بها ما يقرب من عشرين شهرا لا يستمع إلى للغناء ، ثم سمعه من ولاء ستار متشبها بالرشيد ، واستمر كذلك سبع سنين ثم ظهر للمغنين والملهين (١).
ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أشهر المغنين فى بغداد فى العصر العباسى الأول.
وذكرنا أن إبراهيم الموصل كان من المقربين إلى الرشيد لبراعته فى الغناء ، وأصله فارسى ، تعلم الغناء فى الموصلى ، تم صار إلى الرى وتعلم فيها أيضا ، وتعلم الغناء العربى والفارسى ، وأعجب به كثير من الناس ، والتفوا حوله حتى أن الرشيد قال : ما أعرف أحدا أكثر أصدقاء من إبراهيم (٢) يصنع فيحسن ، وكان بمنزله خطيب أو شاعر أو كاتب يتقن مهنته ، فضلا عن أنه كان شاعرا وأديبا حتى قيل إن إبراهيم بستان فيه جميع الثمار والرياحين (٣).
ولم يكن الناس يعلمون الجوارى الغناء ، وأول من علهم إبراهيم فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ ، ورفع من أقدارهن ، وكان يضع اللحن ، ويكرره لتستوى له أجزاؤه ، وجواريه يضربن عليه ، صنع إبراهيم الموصلى تسعمائة لحن ، تفوق فى ثلاثمائة منها على جميع الموسيقيين المعاصرين والسابقين عليه (٤).
لما ولى الرشيد الخلافة وجلس بعد فراغه من إحكام الأمور ، دخل عليه المغنون ، وأول من غناه إبراهيم الموصلى ، فشقف به ، وكان الرشيد يعقد مجالس المغنيين ، ويطلب منهم أن يبرز كل واحد منهم ألحانه ، وفضل إبراهيم الموصلى على غيره ، وبلغ من محبته لأغانيه ، أنه كان يذهب إليه فى منزله ، ويطلب منه أن يغنيه من ألحانه (٥) وكان لكل واحد من المغنيين مذهب فى الألحان التى
__________________
(١) الجاحظ : التاج ص ٤٣.
(٢) الأصفهانى : الأغانى ج ٥ ص ١٦٩.
(٣) ابن عبد ربه : العقد الفريد ج ٤ ص ١٠٨.
(٤) الأصفهانى : الأغانى ج ٥ ص ١٨٧.
(٥) المصدر السابق ج ٥ ص ٢٣٠.