كلّ غمرة ، وتجرّع فيه كلّ غُصة ، وقد تلوّن له الأدنون وتألّب عليه الأقصون ، وخلعت إليه العرب أعنّتها ، وضربت إلى محاربته بطون رواحلها ، حتّى أنزلت بساحته عداوتها من أبعد الدار وأسحق المزار» (١).
الثاني : شدّة حرصه على رجوع الخلق إلى الحقّ ، ومبالغته في دعوتهم إليه ، وكمال الإهتمام بشأنهم وكثرة تأسّفه وتحسّره على عدم إيمانهم ، حتّى خاطبه ربّه بقوله تعالى : «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (٢) أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على أن لا يؤمنوا.
وبقوله تعالى : «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا» (٣) شبّهه برجل الذي فارقه أعزّته وهو يتلهّف على آثارهم ، ويهلك نفسه حسرة وتأسّفا على فراقهم.
وقال له : «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» (٤).
الثالث : معالجته للأمراض النفسانيّة ، وإزالته للأعراض الظلمانيّة من نفوس الجهّال وقلوب أهل الزيغ والضلال ، فإنّ النفوس الجاهلة وان كانت في أوّل الفطرة قابلة لنور العلم وظلمة الجهل ، لكنّها بمزاولة آلأعمال السيّئة والأفعال الشهويّة والغضبيّة صارت كالبهائم والسباع مظلمة الذوات ، ورسخت فيها الجهالات والأخلاق الحيوانيّة والدواعي السبعيّة ، فيحتاج معالجتها إلى جهد جهيد ، وعناء شديد ، حتّى
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٣٠٧ ، الخطبة : ١٩٤.
٢ ـ الشعراء : ٣.
٣ ـ الكهف : ٦.
٤ ـ فاطر : ٨.