وفي الآية إيماء إلى أن التّرف مدعاة إلى الإسراف ، والإسراف يفضي إلى الفسوق والعصيان ، والظّلم والانحراف ، وتلك عادة متّبعة كما قال تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء ١٧ / ١٦].
ثمّ بيّن تعالى عدله وسنّته في المصلحين ، فقال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ) أي ليس من شأن الله تعالى أن يهلك أهل القرى ، ظالما لها ، وأهلها قوم مصلحون ، تنزيها لذاته تعالى عن الظّلم ، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظّلم. وقيل الظّلم : الشّرك ، ومعناه : أنه لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها ، وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم ، أو في أمورهم الاجتماعية ، يتعاطون الحقّ فيما بينهم ، ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر ، أي لا ينزل عذاب الاستئصال لأجل كون القوم مجرّد كونهم معتقدين للشّرك والكفر ، بل إنما ينزل العذاب إذا أساؤوا في المعاملات ، وسعوا في الإيذاء والظّلم ، كما فعل قوم شعيب ، وقوم هود ، وقوم فرعون ، وقوم لوط. ويؤيده أنّ الأمم تبقى مع الكفر ، ولا تبقى مع الظّلم.
ثم أخبر الله تعالى أنه قادر على جعل الناس أمة واحدة من إيمان أو كفر ، فقال تعالى: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ..) قال الزّمخشري معبّرا عن مذهب المعتزلة : يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملّة واحدة ، وهي ملّة الإسلام ، كقوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المؤمنون ٢٣ / ٥٢]. فهم يحملون الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار ، والمراد نفي الاضطرار ، وأنه لم يقهرهم على الاتّفاق على دين الحقّ ، ولكنه مكّنهم من الاختيار الذي هو أساس التّكليف ، فاختار بعضهم الحقّ ، وبعضهم الباطل ، فاختلفوا ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك أي إلا أناسا هداهم الله ولطف بهم ، فاتّفقوا على دين الحقّ غير مختلفين فيه.
ويرى أهل السّنّة : أن الآية بيان لقدرة الله تعالى على جعل الناس كلهم على