فكان موقفها منه كما قال تعالى :
(قالَتْ : إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي قالت السيدة مريم لعذراء البتول : إني أستعيذ (أو أستجير) بالرحمن منك أن تنالني بسوء إن كنت تخاف الله ، فاخرج من وراء الحجاب. وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل ، فخوفته أولا بالله عزوجل ، والاستعاذة والتخويف لا يؤثران إلا في التقي ، وهو كقوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة ٢ / ٢٧٨] أي إن الإيمان يقتضي ذلك ويوجبه ، لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال ، وهذا دليل عفتها وورعها.
فأجابها جبريل عليهالسلام :
(قالَ : إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) أي قال الملك جبريل مهدئا روعها ومزيلا خوفها : لست أريد بك سوءا ، ولكن أنا رسول إليك من ربك الذي استعذت به ، ولست ممن يتوقع منه السوء أو مما تظنين ، بعثني الله إليك لأهب لك غلاما طاهرا من الذنوب ، ينمو على النزاهة والعفة. وقد نسب الهبة لنفسه لجريانها على يده بأمر الله تعالى.
فتعجبت مريم مما سمعت ، وقالت :
(قالَتْ : أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ، وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي قالت لجبريل : كيف يكون لي غلام؟ وعلى أي صفة يوجد هذا الغلام مني ، ولست بذات زوج ، أو لم يقربني زوج ، ولا يتصور مني الفجور ، فلم أك يوما ما بغيا ، أي زانية ، تبغي الرجال بالأجر. وجوابها هذا لم يكن عن استبعاد لقدرة الله ، وإنما عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل ، والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور ، وإن حدث خلاف هذا في القدرة الإلهية ، فإنها عرفت أنه