وهي أول قصة حكاها القرآن في هذه السورة على أثر قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي خذ يا محمد من آثار حكمة الله وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله : «إني آنست نارا ...».
مشى موسى عليهالسلام هو وزوجته من مدين إلى مصر ، وشأنه ككل بشر عادي ، يحار في الصحراء ، ومفارق الطرق ، وفي الليالي الظلماء الباردة العاصفة ، فضل الطريق ، وأحس هو وزوجته بالحاجة إلى الدفء ، كما يحس المسافر العادي بالحاجة إلى النار أثناء البرد.
واستدرجه ربّه فيما يناسب ظرفه والمناخ الذي يكتنفه ، فرأى نارا من بعيد ، فبشّر أهله بما رأى ، وأنه سيأتي بشعلة نار منها ، ويهتدي بأهل النار إلى الطريق ، إذ النار لا توقد وحدها من دون شخص يوقدها.
ولكنه فوجئ بنقيض مقصوده ، لما جاء المكان الذي ظن أنه نار ، وهي نور ، وذلك أنه لما رأى موسى النار وقف قريبا منها ، فوجدها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الاخضرار ، يقال لها العلّيق ، لا تزداد النار إلا عظما وتضرّما ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا ، وأراد أن يقتطع منها غصنا ملتهبا ، فلم يتمكن ، حتى تبين أنها مباركة ، ثم نودي : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي ناداه الله مباركا مكان النار ، ومن حولها : الملائكة والبقعة وموسى. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ؛ قال : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [هود ١١ / ٧٣].
والخلاصة : إن هذه النار التي رآها موسى فيض من نور الله ، تمهيدا لتكليم الله موسى وتحيته وجعله نبيا رسولا ، وتنزيها وتقديسا لله رب العالمين ، علما بأن هذا الكلام الأخير من قول الله تعالى تعليما لنا ، وقيل : إن موسى عليهالسلام قال حين فرغ من سماع النداء : استعانة بالله تعالى وتنزيها له.