(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي ثم بعثنا بعدهم رسلا تترى ، رسولا بعد رسول ، وبعضهم بعد بعض ، مع مرور العصور ، وذلك إلى أن انتهى الأمر إلى أيام عيسى عليهالسلام ، فخصه بالذكر لشهرته في عصر التنزيل ، فقال :
(وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي وأتبعنا سلسلة الرسل بعيسى عليهالسلام ، وأعطيناه الإنجيل : وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه ، متضمنا أصول شرعه ، ومكملا لما في التوراة ، وموضحا حقيقة الشريعة وحكمتها ، ومخففا بعض أحكامها القاسية التي شرعت تغليظا على بني إسرائيل لظلمهم وفحشهم ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء ٤ / ١٦٠].
ثم ذكر الله تعالى بعض صفات أتباع عيسى ، فقال :
(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ، وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ، ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ ، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي وجعلنا في قلوب أتباعه وهم الحواريون وأنصارهم رقة في الطبع ورحمة بالخلق ، خلافا لليهود القساة ، وابتدعوا الرهبانية من جهة أنفسهم ، ولم يشرعها الله لهم ، ولم يأمرهم بها ، بل ساروا عليها غلوا في العبادة ، وحمّلوا أنفسهم المشقات في الامتناع عن المطعم والمشرب والزواج ، وانعزلوا عن الناس وانقطعوا إلى العبادة في الكهوف والصوامع ، ولبسوا الملابس الخشنة ، تقربا إلى الله تعالى.
ولكنهم ابتدعوا الرهبانية بقصد مرضاة الله ، غير أنهم لم يراعوها حق الرعاية ، ولم يحافظوا على أصولها ، بل ضيّعوها ، واستعملها كثير منهم في الفساد.
وهذا ـ كما قال ابن كثير ـ ذمّ لهم من وجهين :
أحدهما ـ الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله تعالى.