«فكذبوهما» كما كذّبت أمم قبلهم وبعدهم ومعهم بعذرهم البائس المتكرر : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ...) «فعززنا» الرسولين برسالتهما «بثالث» فإنّ في تلاحق الحجج مزيدا من الاعتزاز للحق «فقالوا» جميعا بكلمة واحدة : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) صيغة سائغة صارمة بتأكيد «إنا» وتقدّم الظرف الموحي للاختصاص : «إليكم» مع التعزيز بثالث.
فقبل الثالث «كذبوهما» بإجمال دونما عناية واعتداد ، فلما عززنا بثالث فصرمت الحجة ، أخذوا في سرد الرد عليهم بعرض عريض إذ عرفوا تلاحق الرسالة في تعزيز دونما وقفة ، فحاولوا في نكرانها واحتالوا في تكذيبها بحجة مفصلة هي في زعمهم قاطعة قارعة ، ولكي يرتاحوا عن تواتر الرسالة.
(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(١٥).
(ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) كحجة أولى لتكذيبهم ، حيوانية التصور ، إذ تحصر إنسانية الإنسان ببشريته ، دون ان تحسب روحه وروحانيته بحساب ، وفي هذا المقياس الحيواني هؤلاء هم أولى بالرسالة إذ يملكون من حيوانية الإنسان أكثر منهم ، وهم كأمثالهم معترفون بمماثلتهم في بشريتهم ، ولكنهم يمتازون عنهم بما يوحى إليهم قدر الاستعداد في روحياتهم وقابلياتهم : (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ... قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ...) (١٤ : ١١) (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ...) (٤١ : ٦).
فالمماثلة في البشرية ليس لزامها المماثلة في سائر الميزات الروحية بقابلياتها ، ولكنهم يحصرون الإنسان في بشريته ، ويحسرونه عما سواه من