قال : وكانت في دار أبي طالب نخلةٌ منعوتةٌ بكثرة الحمل ، موصوفة بالرقّة وعذوبة الطعم ، شهيّة المضغ ، يعقب طعمها رائحةٌ طيّبة عطريّة كرائحة الزعفران المذاب بالعسل ، كثيرة اللحا ، قليلة السحا ، دقيقة النوى ، فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يأتي إليها كلّ غداةٍ مع أترابه ، منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمّه ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، ومسروح بن ثويبة ، فيلتقطون ما يتساقط تحتها من تمرها بهبوب الرياح ووقوع الطير ونقره ، وكانت فاطمة بنت أسد لا ترى رسول الله صلّى الله عليه وآله يسابق أترابه على البسر والبلح والرطب في أوانه ، وكان الغلمة يبادرون لذلك ، وهو صلّى الله عليه وآله يمشي بينهم ، وعليه السكينة والوقار بتواضع وابتسام ، ويتعجّب من حرصهم وعجلتهم ، فكان إن وجد شيئاً ساقطاً بعدهم أخذه ، وإلّا انصرف بوجهٍ منبسطٍ طلقٍ ، وبشرٍ حسن ، فكانت فاطمة تعجب من شدّة حيائه ، وطيب شأنه ، ورقّة قلبه ، وسرعة دمعته ، وكثرة رحمته ، فربما جمعت به من تمر النخلة قبل مجيئهم ، فإذا أقبل صلّى الله عليه وآله قدّمته إليه ، فيحبّ أن يأكله معهم.
قالت فاطمة : ودخل عليَّ أترابُه يوماً وأنا مضطجعة ولم أره معهم ، فقلت : أين محمدٌ؟ قالوا : مع عمّه أبي طالب وراءنا.
فسكنت نفسي قليلاً ، ولقط الغلمان ما كان تحت النخلة ، وجاء بعدهم محمّد ، فلم يره تحتها شيئاً ، فصار إليها ووقف تحتها ـ وكانت باسقة ـ فأومأ بيده إليها ، فانثنت بعراجينها حتّى كادت تلحق بثمارها الأرض ، فلقط منها ما أراد ، ثمّ رفع يده وأومأ إليها فرجعت ، وحسبني راقدةً ، قالت : وكنتُ مضطجعة ، فلمّا رأيت ذلك استطير في روعي ، ولم أملك نفسي ، فأتيتُ أبا طالب ، فخلوتُ به ، فقلتُ له : كان من أمر محمّد صلّى الله عليه وآله كيت وكيت؟
فقال : مهلاً يا فاطمة ، لا تذكري من هذا شيئاً ، فإنّه حلمٌ وأضغاث.