تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وفيه تقرير لمعنى الإبداع ، وإيماء إلى حجة خامسة وهي : أن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة ، وفعله تعالى مستغن عن ذلك. وقرأ ابن عامر «فيكون» بفتح النون. واعلم أن السبب في هذه الضلالة ، أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى باعتبار أنه السبب الأول ، حتى قالوا إن الأب هو الرب الأصغر ، والله سبحانه وتعالى هو الرب الأكبر ، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فاعتقدوا ذلك تقليدا ، ولذلك كفّر قائله ومنع منه مطلقا حسما لمادة الفساد.
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١١٨)
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي جهلة المشركين ، أو المتجاهلون من أهل الكتاب. (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة ، أو يوحي إلينا بأنك رسوله. (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) حجة على صدقك ، والأول استكبار والثاني جحود ، لأن ما أتاهم آيات الله استهانة به وعنادا ، (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً). (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)(تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد. وقرئ بتشديد الشين. (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون اليقين ، أو يوقنون الحقائق لا يعتريهم شبهة ولا عناد. وفيه إشارة إلى أنهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات أو لطلب مزيد اليقين ، وإنما قالوه عتوا وعنادا.
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١٢٠)
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) متلبسا مؤيدا به. (بَشِيراً وَنَذِيراً) فلا عليك إن أصروا وكابروا. (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت. وقرأ نافع ويعقوب : (لا تُسْئَلُ) ، على أنه نهي للرسول صلىاللهعليهوسلم عن السؤال عن حال أبويه. أو تعظيم لعقوبة الكفار كأنها لفظاعتها لا يقدر أن يخبر عنها ، أو السامع لا يصبر على استماع خبرها فنهاه عن السؤال. والجحيم : المتأجج من النار.
(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) مبالغة في إقناط الرسول صلىاللهعليهوسلم من إسلامهم ، فإنهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، فكيف يتبعون ملته. ولعلهم قالوا مثل ذلك فحكى الله عنهم ولذلك قال : (قُلْ) تعليما للجواب. (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى إلى الحق ، لا ما تدعون إليه. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) آراءهم الزائفة. والملة ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه ، من أمللت الكتاب إذا أمليته ، والهوى : رأي يتبع الشهوة (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي الوحي ، أو الدين المعلوم صحته. (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنك عقابه وهو جواب لئن.
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٢١)
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد به مؤمني أهل الكتاب (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه ، وهو حال مقدرة والخبر ما بعده ، أو خبر على أن المراد بالموصول مؤمنوا