المال شقيق الروح ، فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها ، أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم ، وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال. (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) أي ومثل نفقة هؤلاء في الزكاة ، كمثل بستان بموضع مرتفع ، فإن شجرة يكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا. وقرأ ابن عامر وعاصم (بِرَبْوَةٍ) بالفتح وقرئ بالكسر وثلاثتها لغات فيها. (أَصابَها وابِلٌ) مطر عظيم القطر. (فَآتَتْ أُكُلَها) ثمرتها. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالسكون للتخفيف. (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. والمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله تعالى : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) وقيل : أربعة أمثاله ونصبه على الحال أي مضاعفا. (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) أي فيصيبها ، أو فالذي يصيبها طل ، أو فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها لارتفاع مكانها. وهو المطر الصغير القطر ، والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضم إليها من أحواله ، ويجوز أن يكون التمثيل لحالهم عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقاتهم الكثيرة والقليلة الزائدتين في زلفاهم بالوابل والطل. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير عن الرئاء وترغيب في الإخلاص.
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٦٦)
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) الهمزة فيه للإنكار. (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) جعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار تغليبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ، ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار ، ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع. (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي كبر السن ، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب ، والواو للحال أو للعطف حملا على المعنى ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر. (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) صغار لا قدرة لهم على الكسب. (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) عطف على أصابه ، أو تكون باعتبار المعنى. والإعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود ، والمعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف ، فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه ، وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي تتفكرون فيها فتعتبرون بها.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٢٦٧)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) من حلاله أو جياده. (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمرات والمعادن ، فحذف المضاف لتقدم ذكره. (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ) أي ولا تقصدوا الرديء منه أي من المال ، أو مما أخرجنا لكم. وتخصيصه بذلك لأن التفاوت فيه أكثر ، وقرئ «ولا تؤمموا» «ولا تيمموا» بضم التاء. (تُنْفِقُونَ) حال مقدرة من فاعل تيمموا ، ويجوز أن يتعلق به منه ويكون الضمير للخبيث والجملة حالا منه. (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) أي وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم لرداءته. (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) إلا أن تتسامحوا فيه ، مجاز من أغمض بصره إذا غضه. وقرئ