ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً). وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق ، والذم لتحريم ما لم يحرم. واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة. وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلىاللهعليهوسلم في حديث عمرو بن قرة : «لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله». وبأنه لو لم يكن رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا ، وليس كذلك لقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها).
وأنفق الشيء وأنفده أخوان ، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالّا على معنى الذهاب والخروج ، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل. ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه ، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها. وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي ، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه. ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «إن علما لا يقال به ، ككنز لا ينفق منه». وإليه ذهب من قال : ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون.
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٤)
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وأضرابه ، معطوفون على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ، داخلون معهم في جملة المتقين دخول أخصين تحت أعم ، إذ المراد بأولئك الذين آمنوا عن شرك وإنكار ، وبهؤلاء مقابلوهم فكانت الآيتان تفصيلا (لِلْمُتَّقِينَ) ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما. أو على المتقين وكأنه قال (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) عن الشرك ، والذين آمنوا من أهل الملل. ويحتمل أن يراد بهم الأولون بأعيانهم ، ووسّط العاطف كما وسط في قوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام |
|
وليث الكتيبة في المزدحم |
وقوله :
يا لهف ذؤابة للحارث الص |
|
ائح فالغانم فالآئب |
على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريق إليه عبر السمع. وكرر الموصول تنبيها على تغاير القبيلين وتباين السبيلين. أو طائفة منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ، ذكرهم مخصصين عن الجملة كذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم.
والإنزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل وهو إنما يلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها ، ولعل نزول الكتب الإلهية على الرسل بأن يلتقفه الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به فيبلغه إلى الرسول. والمراد (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد. أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى). فإن الجنّ لم يسمعوا جميعه ولم يكن الكتاب كله منزّلا حينئذ. وبما (أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) التوراة والإنجيل وسائر الكتب السابقة ، والإيمان بها جملة فرض عين ، وبالأول دون الثاني تفصيلا من حيث إنا متعبدون بتفاصيله فرض ، ولكن على الكفاية. لأن وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش.
(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا