إلى الله تعالى إما لأن الكل بفعله ، أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفي ، أو أمر سماوي كريح أو مطر ، أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له ، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور ، فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فذكر الظلمة التي هي عدم النور ، وانطماسه بالكلية ، وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان. وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى ، وله مفعول واحد فضمن معنى صير ، فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ).
وقول الشاعر :
فتركته جزر السّباع ينشنه |
|
يقضمن حسن بنانه والمعصم |
والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا ، أي ما منعك ، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية. وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ). أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمدي ، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة ، ومفعول (لا يُبْصِرُونَ) من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد.
والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى فأضاعه ، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيرا متحسرا ، تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الأولى ، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر ، وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة ، أو ارتد عن دينه بعد ما آمن ، ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة ، أو مثّل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء ، وسلامة الأموال والأولاد ، ومشاركة المسلمين في المغانم. والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها.
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(١٨)
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لما سدوا مسامعهم عن الإصاخة إلى الحق وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ويتبصروا الآيات بأبصارهم ، جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتفت قواهم كقوله :
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به |
|
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا |
وكقوله :
أصمّ عن الشيء الّذي لا أريده |
|
وأسمع خلق الله حين أريد |
وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل ، لا الاستعارة إذ من شرطها أن يطوي ذكر المستعار له ، بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لو لا القرينة كقول زهير :
لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف |
|
له لبد أظفاره لم تقلم |
ومن ثم ترى المفلقين السحرة يضربون عن توهم التشبيه صفحا كما قال أبو تمام الطائي :
ويصعد حتى يظنّ الجهول |
|
بأنّ له حاجة في السّماء |
وهاهنا وإن طوى ذكره بحذف المبتدأ لكنه في حكم المنطوق به ، ونظيره :
أسد عليّ وفي الحروب نعامة |
|
فتخاء تنفر من صفير الصّافر |