والمهرة ، وكما (أن) (١) إبراء عيسى عليهالسلام الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى (٢) ـ بإذن الله ـ معجزة له في زمان الأطباء الألباء. ولما اتسع نطاق الإسلام ، وامتد رواق الإيمان ، وأثبت في الآفاق شعاع الدين ، واستضاءت القلوب بنور اليقين ، لم يتعرض لمعارضة القرآن منطيق مدره (٣) ، ولا شاعر مصقع (٤) إلّا ختم على خاطره وفنه ، وإنما قصارى المتحلين بالبلاغة ، والحاطبين في حبل البراعة أن يقتبسوا من ألفاظه ومعانيه في أنواع مقاصدهم ، أو يستشهدوا ويتمثلوا به (٥) في فنون مواردهم ومصادرهم ، فيكتسي كلامهم بذلك الاقتباس معرضا (٦) ما لحسنه غاية ، ومأخذا ما لرونقه نهاية ، ويكسب حلاوة وطلاوة ما فيها إلّا معسولة الجملة والتفصيل. ويستفيد جلالة وفخامة ليست فيهما إلا مقبولة الغرة والتحجيل (٧). هذا النبي صلىاللهعليهوسلم هو أفصح العرب لهجة وأعذبهم عذبة (٨) وأحسنهم إفصاحا وبيانا ، وأرجحهم في الحكمة البالغة ميزانا ، قد اقتبس من معاني القرآن وألفاظه في الكثير من كلامه ، والجمّ الغفير من مقاله. وكذلك السلف الأفضل من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ، ومن بعدهم إلى يومنا من كل طبقة. فما أكثر ما عوّلوا على الاقتباس من القرآن فرصّعوا كلامهم (٩) ترصيعا ، وتعاطوا فنونه جميعا. وسأورد في هذا الكتاب من محاسنها كل ما تروق أصوله وفصوله ، ويفيد مسموعه ومحصوله. وإذ قد استمررت في تصديره ، فأنا ذاكر أبوابه ؛ ليفرد كل منهما بذاته وتقرب على الناظر فيه وجوه إيراده. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
__________________
(١) في الأصل : (كما ابرأ) وما بين القوسين ليست في الأصل.
(٢) في قوله تعالى في سورة المائدة : ١١٠ (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي).
(٣) المدره : زعيم القوم والمتكلم عنهم.
(٤) المصقع : الخطيب البليغ.
(٥) في الأصل : (ويتمثل).
(٦) المعرض : المظهر يقال عرض له أمر كذا ، يعرض أي ظهر.
(٧) التحجيل : في الأصل بياض في قوائم الفرس. والغرة : بياض في جبهته ، وذلك من صفات الفرس الأصيل وقد استعملها الثعالبي مجازا.
(٨) العذبة : طرف اللسان.
(٩) في الأصل : (أحلامهم).