كما أن المشكل فى الأصل ما دخل فى أشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد فى تدبرها وتحصيل العلوم التى نيط بها استنباط ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح فى استخراج مقاصدها الرائفة ومعانيها اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينها وبين المحكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصية وأما قوله عزوجل (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) فمعناه أنها حفظت من اعتراء الخلل أو من النسخ أو أيدت بالحجج القاطعة الدالة على حقيتها أو جعلت حكيمة لا نطوائها على جلائل الحكم البالغة ودقائقها وقوله تعالى (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) معناه متشابه الأجزاء أى يشبه بعضها بعضا فى صحة المعنى وجزالة النظم وحقية المدلول (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أى ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة. قال الراغب الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين وفى جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة فى عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) معرضين عن المحكمات أى يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطل لا تحريا للحق بعد الإيمان بكونه من عند الله تعالى بل (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أى طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه كما نقل عن الوفد (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أى وطلب أن يؤلوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغة والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عزوجل (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فإنه حال من ضمير فيتبعون باعتبار العلة الأخيرة أى يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله والحال أنه مخصوص به تعالى وبمن وفقه له من عباده الراسخين فى العلم أى الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا فى مزال الأقدام فى تعليل الاتباع بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل فى شىء وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه ومن وقف على إلا الله فسر المتشابه بما استأثر الله عز وعلا بعلمه كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة وخواص الأعداد كعدد الزبانية أو بما دل القاطع على عدم إرادة ظاهره ولم يدل على ما هو المراد به (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أى بالمتشابه وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره أو بالكتاب والجملة على الأول استئناف موضح لحال الراسخين أو حال منه وعلى الثانى خبر لقوله تعالى (وَالرَّاسِخُونَ) وقوله تعالى (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) من تمام المقول مقرر لما قبله ومؤكد له أى كل واحد منه ومن المحكم أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما أو آمنا به وبحقيته على مراده تعالى (وَما يَذَّكَّرُ) حق التذكر (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أى العقول الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائغة وهو تذييل سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر وإشارة إلى ما به استعدوا للاهتداء إلى تأويله من تجرد العقل عن غواشى الحس وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث إنها جواب عما تشبث به النصارى من نحو قوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) على وجه الإجمال وسيجىء الجواب المفصل بقوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).