بِضْعِ سِنِينَ) ـ أي ما بين الثلاثة والعشر ـ (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ١ ـ ٧]. الفرس كانوا مجوسا والروم والنصارى ، فورد خبر غلبة الفرس إياهم مكة ، ففرح المشركون وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ونحن وفارس أميون لا كتاب لنا وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن عليكم. فنزلت هذه الآيات. فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا يقرّن الله أعينكم ، فو الله لتظهرن الروم على فارس في بضع سنين. فقال أبيّ بن خلف : كذبت أجعل بيننا وبينك أجلا. فراهنه على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعلا الأجل ثلاث سنين. فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الإبل وماده في الأجل ، فجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين. ومات أبيّ بعد ما رجع من أحد وظهرت الروم على فارس في السنة السابعة من مغلوبيتهم ، فأخذ أبو بكر القلائص من ورثة أبيّ. فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم تصدق بها.
قال صاحب ميزان الحق في الفصل الرابع من الباب الثالث : «لو فرضنا صدق ادعاء المفسرين أن هذه الآية نزلت قبل غلبة الروم الفرس ، فنقول أن محمدا صلىاللهعليهوسلم قال بظنه أو بصائب فكره لتسكين قلوب أصحابه. وقد سمع مثل هذه الأقوال من أصحاب العقل والرأي في كل زمان». انتهى. فقوله (لو فرضنا صدق ادعاء المفسرين) يشير إلى أن هذا الأمر ليس بمسلم عنده. وهذا عجيب ، لأن قوله تعالى : (سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) نص في أن هذا الأمر يحصل في الزمان المستقبل القريب ، في زمان أقل من عشر سنين ، كما هو مقتضى لفظ السنين والبضع ، وكذا قوله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) وقوله : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) لأنهما يدلان على حصول فرح في الزمان الآتي ، وحصول هذا الأمر فيه ، ولا معنى للوعد وعدم الخلف في الأمر بعد وقوعه. وقوله أن محمدا صلىاللهعليهوسلم قال بظنه أو بصائب فكره مردود بوجهين : الأول : ان محمدا صلىاللهعليهوسلم كان من العقلاء عند المسيحيين أيضا. ويعترف بهذا القسيس النّبيل هاهنا ، وفي المواضع الأخر من تصانيفه. وليس من شأن العاقل المدّعي للنبوّة أن يدّعي ادعاء قطعيا أن الأمر الفلاني يكون في المدة القليلة هكذا البتة ، ويأمر معتقديه بالرهان على هذا ، سيما في مقابلة المنكرين الطالبين لمذلته المتفحصين لمزلة أقدامه في أمر لا يكون وقوعه مفيدا فائدة يعتد بها ويكون عدم وقوعه سببا لمذلته وكذبه عندهم ، ويحصل لهم سند عظيم لتكذيبه. والثاني : ان العقلاء وإن كانوا يقولون في بعض الأمور بعقولهم ويكون ظنهم صحيحا تارة وخطأ أخرى ، لكن جرت العادة الإلهية بأن القائل ، لو كان مدّعي النبوّة كذبا ويخبر عن الحادثة الآتية ويفتري على الله بنسبة هذا الخبر إلى الله ، لا يكون هذا الخبر صحيحا ، بل يخرج خطأ وغلطا البتة ، كما ستعرف في آخر هذا المبحث إن شاء الله.