وكان صوت من السموات : أنت ابني الحبيب الذي به سررت». انتهى بعبارة مرقس. فانشقاق السموات لما كان في النهار فلا بدّ أن لا يخفى على أكثر أهل العالم. وكذا رؤية الحمامة وسماع الصوت لا يختص بواحد دون واحد من الحاضرين. ولم يكتب أحد هذه الأمور غير الإنجيليين. وقال جان كلارك مستهزئا بهذه الحادثة : «إن متى أبقانا محرومين من الاطلاع العظيم ، وهو أنه لم يصرّح أن السموات لما انفتحت هل انفتحت أبوابها الكبيرة أم المتوسطة أم الصغيرة؟ وهل كانت هذه الأبواب في هذا الجانب من الشمس أو في ذلك الجانب؟ ولأجل هذا السهو الذي صدر عن متّى ، قسوسنا يضربون الرءوس متحيرين في تعيين الجانب» ثم قال : «وما أخبرنا أيضا أن هذه الحمامة هل أخذها أحد وحبسها في القفص ، أم رأوها راجعة إلى جانب السماء؟ ولو رأوها راجعة ، ففي هذه الصورة لا بدّ أن تبقى أبواب السموات مفتوحة إلى هذه المدة ، فلا بدّ أنهم رأوا باطن السماء بوجه حسن ، لأنه لا يعلم أن بوابا كان عليها قبل وصول بطرس هناك. لعلّ هذه الحمامة كانت جنية». انتهى كلامه.
وأما بطلانها (١) عقلا ، فلوجوه ثمانية : الأول : ان انشقاق القمر كان في الليل وهو وقت الغفلة والنوم والسكون عن المشي والتردد في الطرق ، سيما في موسم البرد. فإن الناس يكونون مستريحين في دواخل البيوت وزواياها مغلقين أبوابها ، فلا يكاد يعرف من أمور السماء شيئا إلا من انتظره واعتنى به. ألا ترى إلى خسوف القمر ، فإنه يكون كثيرا وأكثر الناس لا يحصل لهم العلم به حتى يخبرهم أحد به في السحر. والثاني : ان هذه الحادثة ما كانت ممتدة إلى زمان كثير ، فما كان للناظر أن يذهب إلى الغير الذي هو بعيد عنه وينبهه أو يوقظ النائم ويريه. والثالث : انها لم تكن متوقع الحصول لأهل العلم لينظروها في وقتها ويروها ، كما أنهم يرون هلال رمضان والعيدين والكسوف والخسوف في أوقاتها غالبا لأجل كونها متوقع الحصول ، ولا يكون نظر كل واحد إلى السماء في كل جزء من أجزاء النهار أيضا ، فضلا عن الليل. فلذلك رأى الذين كانوا طالبين لهذه المعجزة ، وكذلك من وقع نظره في هذا الوقت إلى السماء ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة ، أن الكفار لما رأوها قالوا سحركم ابن أبي كبشة؟ فقال أبو جهل هذا سحر ، فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى تنظروا ، رأوا ذلك أم لا. فأخبر أهل آفاق مكة أنهم رأوه منشقا ، وذلك لأن العرب يسافرون في الليل غالبا ويقيمون بالنهار. فقالوا هذا سحر مستمر. وفي المقالة الحادية عشر من تاريخ فرشته أن أهل مليبار من إقليم
__________________
(١) أي : شبهة المنكرين أن الأجرام العلويّة لا يتأتى فيها الخرق والالتئام. وسبق شرح بطلانها نقلا. وللتذكير ، فلقد ورد ذكر هذه الشّبهة في الشاهد الثاني على النوع الثاني من نوعي إيراد معجزات محمد صلىاللهعليهوسلم التي هو موضوع المسلك الأول من الفصل الأول من الباب السادس من هذا الكتاب.