فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات ، فالويل لمن جحد المقدّر ، وأنكر المدبّر (١) ، زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجأوا إلى حجّة فيها ادّعوا ، ولا تحقيق لما وعوا (٢) ، وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان.
وإن شئت قلت في الجرادة ؛ إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفي ، وفتح لها الفم السوي ، وجعل لها الحسّ القوي ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، يرهبها الزّرّاع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم حتّى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة ، فتبارك الله الّذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، ويعفّر له خدّا ووجها ، ويلقي بالطاعة إليه سلما ، وضعفا ، ويعطي له القياد رهبة وخوفا.
فالطير مسخّرة لأمره ، أحصى عدد الريش منها ، والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، قدّر أقواتها ، وأحصى أجناسها ، فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام ، دعا كلّ طائر باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السحاب الثقال ، فأهطل ديمها ، وعدّد قسمها ، فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها» (٣).
__________________
(١) ـ في المصدر : أنكر المقدّر ، وجحد المدبّر.
(٢) ـ في المصدر : أوعوا.
(٣) ـ نهج البلاغة : ٢٧٠ ، من الخطبة «١٨٥» في صفة خلق أصناف الحيوان.