الأرض ، وقعر البحار ، وتفسد المياه ، وريحها ، فتصير تلك سببا وهلاكا للأحياء ، فالغرض الأصلي من ذلك إنّما هو جلب المنفعة ، ودفع المضرّة ، وإن كان ينال بعضها الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل والقبض ، فإنّ ذلك إنّما هو بالعرض.
ولنقتصر في هذا النمط من الكلام على ذلك ، فإنه بحر لا ساحل له ؛ إذ بدائع حكم الله سبحانه وعناياته في خلقه أكثر من أن تصل إلى صفته عمايق الفطن ، أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين ، ولنشتغل بالبحث عن شيء ممّا دبّر الله سبحانه بلطيف حكمته ، ودقيق صنعه في بدن الحيوان الكامل خاصة ، الّذي يبقى بعد خراب البدن ، سيّما أشرف أنواعه ، الّذي هو الإنسان ، وليقس عليه سائر الأنواع.
فصل
لما كانت النفس الحيوانية من عالم الملكوت ، وهي نشأة لطيفة نورانية ، وبدنها من عالم الملك ، وهي نشأة كثيفة ظلمانية ، والشيء إنّما يتصرّف في ما بينه وبينه مناسبة ، فلا بدّ من متوسّط له مناسبة ما مع كلّ من الطرفين ، ليتمكّن من التصرّف فيه ، بل لا بدّ وأن يكون فيما بين ألطف لطيفه وأكثف كثيفه وسائط متناسبة ، منضودة بعضها بالبعض ، كما في طبقات الأجرام الكلية الفلكية ، والعنصرية ؛ إذ الموجودات مترتبة في اللطافة والكثافة فيما يتّصف بهما ، كما أنها مترتبة في الشرف والخسّة ، كما دلّت عليه قاعدة الإمكان الأشرف.
فخلق الله سبحانه بلطيف صنعه جرما ، حارّا ، لطيفا ، نورانيا ، شفّافا ، يسمى ب «الروح البخاري» ، وجعله مركبا للنفس وقواها ، وكرسيّا لملائكتها ، حيّا بحياتها ، باقيا بتعلّقها به ، فانيا برحلتها عنه ، لا كسائر الأجرام الّتي تزول عنها