فصل
كلّ إحساس فإنما هو بإنشاء النفس الصورة المحسوسة في عالم الملكوت النفساني ، مجرّدة عن المادة ، لا عن الإضافة إليها ، قائمة بالنفس قيام وجود الشيء بفاعله ، لا بقابله ، فالمدرك بالذات في كلّ محسوس ما عند النفس من الصورة المخترعة في عالمها ، لا في مادتها ، والهواء وغيره من الوسائط كالآلة والمعدّ من غير أن يكون ما فيه من الكيفية مدركة ، فحصول الصور في المواد علة معدّة لحدوثها في صقع النفس ، وحضرة المثول بين يديها ، فليست مماسة المواد والوسائط من جهة كونها موضوعا شرطا أصلا ، بل من جهة إعدادها لفيضان الصور عن النفس.
فالنفس تدرك صورة المسموع بواسطة الهواء المنفعل على هيئته وشكله ، ووضعه المخصوص ، المناسب لتلك الحاسة المعينة ، وإعدادها الخاص ، لكن لا في المادة ، ليستلزم تشكّل الهواء بأشكال الحروف ، بل في عالمها الخاصّ بها ، وتدرك صورة المرئي بواسطة الرطوبة الجليدية ، لا بأن يحلّ في تلك الرطوبة ، ليلزم المفاسد ، بل بأن تتمثّل لها تلك الصورة تمثّلا إدراكيا شهوديا بواسطة قوّة هيولانية في تلك الرطوبة ؛ إذ من شأن كلّ قوّة هيولانية تعلّقت بها نفس أن تصير مرآة لإدراكها ، ومظهرا لملاحظتها أشياء مناسبة لها.
ألا ترى أن الأحول لما تعددت قوته البصرية بلا مجمع ، رأى الصورة الواحدة اثنتين ، ولو فرض لرجل واحد عيون كثيرة فوق اثنتين بلا مجمع ، لرأى الصورة الواحدة صورا كثيرة ، دفعة واحدة ، على حسب كثرة عيونه ، ولو لم يكن حصولها للنفس حصولا ذهنيا ، بل مادّيا ، لازدحمت الصور الكثيرة على مادّة