يوضحه الوجه الثاني والعشرون : أنّ العقلاء قاطبة متفقون على استحسان إتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها ، من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة ، وطلب محمدة من ينفعهم حمده ، وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك ، كان أحسن حالا وأرفع قدرا ، وكذلك يستحسنون إتعاب النفوس في تحصيل الغنى والعز والشرف ، ويذمون القاعد عن ذلك ، وينسبونه إلى دناءة الهمة وخسّة النفس وضعة القدر.
دع المكارم لا تنهض لبغيتها |
|
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي |
وهذا التعب والكدّ يستلزم آلاما ، وحصول مكاره ومشاق ، هي الطريق إلى تلك الكمالات ، ولم يقدحوا بتحمل تلك في حكمة من يحملها ، ولا يعدونه عائبا ، بل هو العقل الوافر ، ومن أمر غيره به ، فهو حكيم في أمره ، ومن نهاه عن ذلك ، فهو سفيه عدوّ له ، هذا في مصالح المعاش ، فكيف بمصالح الحياة الأبدية الدائمة والنعيم المقيم ، كيف لا يكون الآمر بالتعب القليل في الزمن اليسير الموصل إلى الخير الدائم حكيما رحيما محسنا ناصحا لمن يأمره وينهاه عن ضده ، من الراحة واللذة التي تقطعه عن كماله ولذته ومسرته الدائمة ، هذا إلى ما في أمره ونهيه من المصالح العاجلة التي بها سعادته وفلاحه وصلاحه ، ونهيه عما فيه مضرته وعطبه وشقاوته.
فأوامر الرب تعالى رحمة وإحسان وشفاء ودواء وغذاء للقلوب وزينة للظاهر والباطن ، وحياة للقلب والبدن ، وكم في ضمنه من مسرّة وفرحة ولذة وبهجة ونعيم وقرة عين ، فما يسمّيه هؤلاء تكاليف ، إنما هو قرّة العيون وبهجة النفوس وحياة القلوب ونور العقول وتكميل للفطر ، وإحسان تام إلى النوع الإنساني أعظم من إحسانه إليه بالصحة والعافية والطعام والشراب واللباس ، فنعمته على عباده بإرسال الرّسل إليهم وإنزال كتبه عليهم وتعريفهم أمره ونهيه وما يحبه وما يبغضه أعظم النعم وأجلّها وأعلاها وأفضلها ، بل لا