ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة ، فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم وفاطرهم ، بل أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وبيّن لهم مواقع رضاه وغضبه ، ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم ، فلم تقو عقول الأكثرين على إيثار الآجل المنتظر بعد زوال الدنيا ، على هذا العاجل الحاضر المشاهد ، وقالوا : كيف يباع نقد حاضر ، وهو قبض باليد ، بنسيئة مؤخّرة ، وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم ، ولسان حال أكثرهم يقول :
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
فساعد التوفيق الإلهي من علم أنه يصلح لمواقع فضله ، فأمدّه بقوة إيمان وبصيرة رأي في ضوئها حقيقة الآخرة ودوامها ، وما أعدّ الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته ، ورأى حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقلّة وفائها وظلم شركائها ، وأنها كما وصفها الله سبحانه لعب ولهو وزينة وتفاخر بين أهلها وتكاثر في الأموال والأولاد ، وأنها كغيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفرّا ، ثم يكون حطاما ، فنشأنا في هذه الدار ، ونحن منها وبنوها ، لا نألف غيرها ، وحكمت العادات ، وقهر السلطان الهوى ، وساعده داعي النفوس ، وتقاضاه موجب الطباع ، وغلب الحسّ على العقل ، وكانت الدولة له. والناس على دين الملك. ولا ريب أن الذي يخرق هذه الحجب ، ويقطع هذه العلائق ، ويخالف العوائد ، ولا يستجيب لدواعي الطبع ، ويعصي سلطان الهوى ، لا يكون إلا الأقل ، ولهذا كانت المادة النارية أقل اقتضاء لهذا الصنف من المادة الترابية ، لخفة النار وطيشها ، وكثرة نقلتها ، وسرعة حركتها ، وعدم ثباتها. والماء المادة الملكية ، فتربه من ذلك ، فلذلك كان المخلوق خيرا كله.
فالعقلاء المخاطبون مخلوقون من هذه المواد الثلاث ، واقتضت الحكمة