فصل
قال شيخنا : والإجماع والآثار المنقولة عن السلف ، لا تدل إلا على القول الذي رجحناه ، وهو أنهم على الفطرة ، ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة ، لا يدل على أنهم حين الولادة لم يكونوا على فطرة سليمة مقتضية للإيمان ، ومستلزمة له ، لو لا العارض.
وروى ابن عبد البر بإسناده ، عن موسى بن عبيدة قال : سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ (٣٠)) [الأعراف] قال : من ابتدأ الله خلقه على الهدى ، صيّره إلى الهدى ، وإن عمل بعمل أهل الضلالة. ومن ابتدأ خلقه للضلالة ، صيّره إلى الضلالة ، وإن عمل بعمل أهل الهدى. ابتدأ خلق إبليس على الضلالة ، وعمل بعمل أهل السعادة مع الملائكة ، ثم ردّه الله إلى ما ابتدأ خلقه عليه من الضلالة ، فقال : وكان من الكافرين. وابتدأ خلق السحرة على الهدى ، وعملوا بعمل أهل الضلالة ، ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة ، وتوفاهم عليها مسلمين.
فهذا المنقول عن محمد بن كعب ، يبين أنّ الذي ابتدأهم عليه هو ما كتب أنهم صائرون إليه ، وأنهم قد يعملون قبل ذلك غيره ، وأن من ابتدئ على الضلالة ، أي : كتب أن يموت ضالا ، فقد يكون قبل ذلك عاملا يعمل بعمل أهل الهدى ، وحينئذ فمن ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى ، لا يمنع أن يعرض لها ما يغيّرها ، فيصير إلى ما سبق به القدر ، كما في الحديث الصحيح : «إنّ أحدكم يعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا