وقد روى المفسرون (١) أن الآيات نزلت في مناسبة جدال في ملة إبراهيم قام بين النبي صلىاللهعليهوسلم ووفد نجران واشترك فيه فريق من أحبار اليهود. حيث قال اليهود إن ملّة إبراهيم هي اليهودية ، وقال النصارى إنها النصرانية. وأسلوب الآيات ومضمونها يؤيدان الرواية. وهناك حديث رواه الترمذي جاء فيه «لما قالت اليهود نحن على دين إبراهيم وقالت النصارى نحن على دين إبراهيم نزلت الآية» (٢). والمتبادر أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرر في مجلس الجدل أنه هو على ملة إبراهيم وداع إليها ، فادعى اليهود أنهم هم الذين على هذه الملة وأنهم أولى به وادعى النصارى مثل هذه الدعوى ، فنزلت الآيات :
١ ـ مسفّهة للدعوى لأن يهودية اليهود هي بعد نزول التوراة ونصرانية النصارى هي بعد نزول الإنجيل في حين أن الكتابين إنما نزلا بعد إبراهيم.
٢ ـ مستهدفة تبرئة إبراهيم من الانحراف الذي انحرفه أهل الكتاب فلم يعد من حقهم أن يدعوا أنهم على ملته ، وتقرير كون هذا الحق إنما هو للذين ثبتوا على هذه الملة دون انحراف وهي الإسلام لله وحده وعدم إشراك شيء به والاستقامة على ذلك ، ثم النبي والذين آمنوا به وإعلان كون الله تعالى هو وليّ المؤمنين المخلصين.
ولقد كانت ملّة إبراهيم واتّباع النبي لها ودعوته إليها موضوع آيات ومشاهد عديدة في العهد المكي بين النبي والمشركين على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة (٣) وصارت كذلك في العهد المدني بين النبي وأهل الكتاب وبخاصة اليهود. وفي سلسلة آيات البقرة الطويلة آيات عديدة في ذلك ؛ حيث يتبادر من ذلك أن إبراهيم عليهالسلام وملّته كانا من المسائل الهامة في الدعوة الإسلامية لأن مشركي العرب واليهود والنصارى يلتقون فيهما. وقد شرحنا في المناسبات السابقة مدى
__________________
(١) انظر تفسير الطبري والخازن والطبرسي وابن كثير وهم يعزون الرواية إلى ابن عباس.
(٢) التاج ، ج ٤ ص ٦٩.
(٣) انظر تفسيرنا لسور الأنعام والرعد والنحل والأنبياء والحج والأعلى.