قال : رأيت جبريل على فرس ، فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة ، فما ألقيت عليه من شىء كان له روح ودم. فحين رأيت قومك سألوك أن تجعل لهم إلها فكذلك سوّلت لي نفسي أن أصنع إلها ، ثمّ ألقي عليه القبضة فيصير ربّا لبني إسرائيل ، فيعبدونه بين ظهرانيهم.
فغضب موسى فأمر بالسامريّ أن يخرج من محلّة بني إسرائيل ، ولا يخالطهم في شيء ، فأمر بالعجل فذبح ثمّ أحرقه بالنار. فمن قرأ (لَنُحَرِّقَنَّهُ) [طه : ٩٧] فهو يريد لنبردنّه (١) ومن قرأها لنحرقَنَّهُ فهو يريد لنحرقنّه بالنار. وهي أعجب القراءتين إليّ ، لأنّ الحريق للذهب الذي لا تحرقه النار آية عجيبة لموسى. فسلّط الله عليه النار فأحرقته. فلمّا أحرقته النار ذراه موسى في اليمّ ، وهو البحر.
ثمّ أتاهم موسى بكتاب ربّهم فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض. فلمّا نظروا إليه قالوا : لا حاجة لنا فيما أتيتنا به ، فإنّ العجل الذي حرقته كان أحبّ إلينا ممّا أتيتنا به ، فلسنا قابليه ولا آخذين ما فيه. فقال موسى : يا ربّ ، إنّ عبادك بني إسرائيل ردّوا كتابك ، وكذّبوا نبيّك ، وعصوا أمرك. فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل ، فغشوا به بني إسرائيل ، حتّى أظلّوا به عسكرهم ، فحال بينهم وبين السماء. فقال موسى : إمّا أن تأخذوا هذا الكتاب بما فيه ، وإمّا أن يلقى عليكم الجبل. فيشدخكم (٢). فقالوا : سمعنا وعصينا. أى : سمعنا الذي تخوّفنا به ، وعصينا الذي تأمرنا به. ثمّ أخذوا الكتاب ، ولم يجدوا بدّا من أخذه. ورفع عنهم الجبل. فنظروا في الكتاب ، فبين راض وكاره ، ومؤمن وكافر. يقول الله : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أى : لكي تشكروا. فندم القوم على ما صنعوا وعاتبهم موسى وعيّرهم بالذي صنعوا ، وقال : (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) ، أى إلى خالقكم. فقالوا : كيف التوبة يا موسى؟ قال : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يعني يقتل بعضكم بعضا. (ذلِكُمْ) ، أى : المتاب ، (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) خالقكم. قالوا : قد فعلنا يا موسى. فأخذ عليهم العهد والميثاق : لتصبرنّ للقتل
__________________
(١) هو من الفعل : حرق يحرق (بضمّ الراء وكسرها) بمعنى برد يبرد. والمحرق المبرد. وفي معاني الفرّاء ج ٢ ص ١٩١ «(لَنُحَرِّقَنَّهُ) لنبردنّه بالحديد بردا ، من حرقته أحرقه وأحرقه لغتان». وفيه «عن الكلبيّ عن أبي صالح أنّ عليّ بن أبي طالب قال : (لَنُحَرِّقَنَّهُ) لنبردنّه. وانظر ابن جنّي ، المحتسب ج ٢ ص ٥٨ ، وانظر اللسان : (برد).
(٢) في اللسان : «الشدخ كسرك الشيء الأجوف كالرأس ونحوه».