وقد أشار ابن خلدون في مواضع كثيرة من تاريخه إلى أغلب هذه المواطن ، ولكنّ أبا عبيد البكري هو الذي يفيدنا أكثر في معرفة هذه المواطن وطبيعة الحياة فيها.
لقد ذكر البكري قبيلة هوّارة في مواضع كثيرة من كتابه المسالك والممالك ، منها ما جاء في حديثه عن الطريق من مدينة القيروان إلى قلعة أبي طويل. قال : «ومن هنا [من مدينة تبسّة] إلى قرية مسكيانة ، ومنها إلى مدينة باغاية ، وعلى مقربة منها جبل أوراس». وذكرها أيضا عند وصفه لمدينة تهوذا فقال : «وبها جامع جليل ومساجد كثيرة وأسواق وفنادق ونهر ينصبّ في جوفيها من جبل أوراس». وذكر أن بجوارها «هوّارة ومكناسة إباضية ، وهم بجوفيها ، وأهل تهوذا على مذاهب أهل العراق ...» (١).
ولعل أنسب وصف لموضوعنا هو ما ذكره البكري في الطريق من مدينة فاس إلى القيروان. قال : «ومن أدنة إلى مدينة طبنة مرحلتان ... ثم تمشي ثلاث مراحل في مساكن العرب وهوّارة ومكناسة وكبينة وورقلة ، يطلّ عليها وعلى ما والاها جبل أوراس ، وهو مسيرة سبعة أيّام ، وفيه قلاع كثيرة يسكنها قبائل هوّارة ومكناسة ، وهم على رأي الخوارج الإباضية ... وفي هذا الجبل كان مستقرّ الكاهنة إلى مدينة باغاية ، وهي حصن صخر قديم حوله ربض (٢) كبير من ثلاث نواح ، وليس فيما يلي الناحية الغربية ربض ، إنّما يتّصل بها بساتين ونهر. وفي أرباضها فنادقها وحمّاماتها وأسواقها. وجامعها داخل الحصن. وهي في بساط من الأرض عريض ، كثير المياه ، وجبل أوراس مطلّ عليه. ويسكن فحص هذه المدينة قبائل مزاتة وضريسة ، وهم يظعنون في زمن الشتاء إلى الرمال حيث لا مطر ولا ثلج خوفا على نتاج إبلهم ، وإلى مدينة باغاية لجأ البربر والروم ، وبها تحصّنوا من عقبة بن نافع القرشي ...» إلى أن يقول : «وأهلها كلهم اليوم على رأي الإباضية» (٣). هذا هو جبل أوراس ، وتلك هي قبيلة هوّارة التي كانت ، بجانب قبائل أخرى ، تعمره ، وتتنقل حواليه ، وإلى الجنوب منه خاصّة ، كما يصوّره لنا البكري.
هنالك قضت أسرة عالمنا حياتها عقودا من القرن الثالث الهجري ، في ظل الدين الإسلاميّ الذي اعتنقه أسلافها منذ الفتح الإسلامي في القرن الأوّل الهجري. ولا تزال أسر كثيرة في هذه
__________________
(١) البكري ، المغرب ، ص ٥٠ ، و ٧٢ ، و ٧٣.
(٢) الربض : ما حول المدينة من النواحي.
(٣) البكري ، المغرب ، ص ١٤٥.