المكسورة ، لا بالتخفيف. وهنا يمدّنا أبو عبيد البكري (١) برواية لها وزنها في الترجيح ، وكأنه فعلا يأتي بالقول الفصل في كتابه : «فصل المقال» حين قال ـ وهو يشرح كلمة لمحكّم اليمامة : «وفي كتاب النسب للكلبي (٢) : قيل له محكّم لأنّهم جعلوه حكما وحكّموه بينهم». فإذا ثبتت هذه الرواية ، ولا أحسبها إلّا صحيحة ثابتة ، انتهى بنا المطاف إلى ترجيح تشديد الكاف المفتوحة في اسم محكّم الهوّاريّ. وهذا ما أميل إليه وأرجّحه. وأرى أنّه إمّا من قولهم : رجل محكّم ، أى : مجرّب ، منسوب إلى الحكمة ، كما قال الجوهريّ ، وأثبته الزمخشري (٣) ، وإمّا لكون المسمّى بهذا الاسم سيّدا في قومه ، محكّما بينهم ، حقيقة أو تفاؤلا. والمعنيان يتعاضدان ويتكاملان ، فلكونه مجرّبا ذا حكمة حكّمه قومه ، فهو محكّم في الحالين (٤).
إنّ محكّما الهواريّ معروف لدينا أكثر من ابنه هود. ذلك أنّ ابن الصغير ـ وهو قريب عهد بعصره ـ قد حفظ لنا نبذة عن حياته ومواقفه الجريئة في القضاء. فهو يصفه لنا قاضيا عدلا ، تقيّا ورعا ، قويّا في دينه ، متينا في أخلاقه ، يجهر بالحقّ ولا يخاف في الله لومة لائم ، يتبيّن ذلك من خلال محاورة الإمام أفلح بن عبد الوهّاب (٥) مع الذين رغبوا منه «أن يولّي القضاء من يستحقّ». والذين «أجمعوا أمرهم على محكّم الهوّاريّ ، الساكن بجبل أوراس».
قالوا لأفلح : «قد تدافعنا هذا الأمر فيما بيننا ، فلم نرتض أحدا منّا. وقد ارتضينا جميعا بمحكّم (كذا) الهوّاريّ ، الساكن بجبل أوراس لخاصّتنا وعامّتنا ، وديننا ودنيانا. فقال أفلح : ويحكم دعوتم إلى رجل كما وصفتم في ورعه ودينه ، ولكن هو رجل نشأ في بادية ، ولا يعرف لذي القدر
__________________
(١) أبو عبيد البكري ، فصل المقال ، ص ٤٢٧. وأبو عبيد البكري أديب ولغويّ ضليع. فمن مؤلّفاته : سمط اللآلئ ، وهو شرح لكتاب الأمالي لأبي عليّ القالي ، والتنبيه على أوهام أبي عليّ في أماليه ، وكتابه هذا : فصل المقال ، هو شرح لأمثال أبي عبيد القاسم بن سلّام.
(٢) لعله يشير إلى كتاب «النسب» لابن الكلبي الذي طبع أخيرا بالكويت طبعة جيّدة محقّقة. ولكنّني لم أجد هذه العبارة في هذا الكتاب ، ولعلّها في كتاب آخر أو لمؤلّف آخر.
(٣) الزمخشري ، أساس البلاغة ، ج ١ ص ١٩٠ ، والزمخشري ، الفائق في غريب الحديث ، ج ١ ص ٣٠٣.
(٤) ذكر لي بعض المشايخ أنّ الاسم قد يكون بتشديد الكاف المكسورة نسبة إلى المحكّمة الذين يقولون : «لا حكم إلا لله». وقد ورد هذا المعنى فعلا في بعض المعاجم ، وقد يكون له وجه من التأويل ، ولكنّي لا أراه وجها راجحا لأنّ الاسم كان موجودا قبل قضيّة التحكيم.
(٥) ابن عبد الرحمن بن رستم ، ثالث الأئمّة الرستميّين ، بويع إماما بعد وفاة أبيه سنة ٢٠٨ / ٨٢٣.