وكون مؤلّفه بصريّا استوطن القيروان تمنح الكتاب ميزة خاصّة تزيد الناس إغراء بالاطّلاع عليه ، وولوعا بتلقّيه. وهذه القيمة العلميّة إنّما اكتسبها من قبل أنّ مؤلّفه بصريّ المنشأ والتعلّم ، عاش ريعان شبابه وكهولته في وسط من أكثر الأوساط الإسلاميّة ازدهارا ونشاطا في علوم القرآن والحديث ، واللغة والأدب ، وها هو ذا يقدّم ثمرة علمه وعصارة جهده تفسيرا قريبا عهده بالمنابع الأولى من القرآن والسنّة ، عاليا سنده في الرواية ، موصولة أخباره وآثاره بالصحابة والتابعين وتابعيهم.
كلّ هذا يقوّي ظنّنا أنّ الشيخ الهوّاريّ قد رحل الى القيروان طلبا للعلم ، وهو في عنفوان شبابه أو أوائل كهولته. وسواء أكان بلغه خبر هذا التفسير وهو في أوراس ، أو علمه وهو في القيروان ، فإنّه يكون ، وهو في القيروان ، تلقّاه مباشرة من محمّد بن يحيى المتوفّى سنة ٢٦٢ / ٨٧٥ ، أو من أبي داود العطّار المتوفّى سنة ٢٧٤ / ٨٨٧. وأستبعد أن يكون تلقّاه من يحيى بن محمّد بن يحيى الحفيد المتوفّى سنة ٢٨٠ / ٩٨٣ (١).
ها هو ذا الكتاب بين يديه ، يدرسه ويستفيد منه ، ولكنّه يكتشف فيه أحيانا آراء وأفكارا لا تنسجم مع ما تعلّمه من قبل وآمن به. إنّ مسائل الكفر والإيمان مثلا ليست دائما في هذا التفسير الجديد على ما استقرّ في نفسه ، وحسبما تلقّاه من أسلافه ، ودرسه على أساتذته ومربّيه. لقد تعلّم أنّ النفاق ليس هو إظهار الإيمان وإضمار الكفر فحسب ، ولكنّه أيضا أن ينطق الإنسان بالشهادتين ولا يستكمل الفرائض ولا يفي لله بما أقرّ به. وإذا كانت الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله ، فإنّها لا تنفع إلّا المؤمن الموفّي ، أمّا الكافر الذي يتمادى في غيّه ، ويموت مصرّا على ذنبه ولم يتب ، فهو خالد في النار.
هذه المسائل وشبيهاتها جعلت الشيخ هودا يعيد النظر في تفسير ابن سلّام فهو وإن كان معجبا به ، مقدّرا لمؤلّفه إلّا أنّه لا يقبله على علّاته ، ولا يتبنّاه بكلّ ما فيه. فما العمل؟ يبدو أنّ الشيخ الهوّاري لا يريد أن يؤلّف تفسيرا من عنده ، مستقلّا بذاته ، ولعلّه كان من أولئك الذين يتهيّبون التفسير (٢) مخافة أن يتقوّلوا على الله أو يتأوّلوا كلامه على غير وجوهه ، الله أعلم. وكأنّه يرى أنّه ما
__________________
(١) والثابت عندي الآن أنّه تلقّاه من يحيى الحفيد.
(٢) كتب إليّ الأستاذ الشيخ ناصر المرموري بما نصّه : «كان علماء الإباضيّة يهابون تفسير القرآن. قال لي الإمام غالب رواية عن بعض مشايخه : إنّ الشيخ أبا نبهان جاعد بن خميس حاول ذلك ، فبدأ من سورة الناس ، ـ