قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) : وهم المنافقون. يقول : لا يحزنك كفرهم ، فإنّ ذلك لا يضرّك ، إنّما ضرّه عليهم. ثمّ قال : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) : وهم اليهود (يَقُولُونَ) : أى يقول الذين لم يأتوك (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٤١).
ذكر بعضهم قال : كان قتيل من بني قريظة قتلته النضير ، وكان قتيل عمد. وكانت النضير إذا قتلت من قريظة قتيلا لم يعطوهم القود ويعطونهم الدية. وإذا قتلت قريظة من النضير قتيلا لم يرضوا دون القود ، فكانوا على ذلك حتّى قدم نبيّ الله المدينة على تفئة (١) قتيلهم ؛ فأرادوا أن يرفعوا ذلك إليه ليحكم بينهم ، فقال رجل من المنافقين : إنّ قتيلكم قتل عمدا ، ومتى ترفعوه إلى محمّد أخشى عليكم القود ، فإن قبل منكم الدية فخذوه ، وإلّا فكونوا منه على حذر. فأنزل الله هذه الآية ثمّ قال : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) : أى الرشى ، يعني اليهود (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) : أى بالعدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٢).
ذكروا عن الحسن في قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قال : كان أحدهم يجيء مع خصمه إلى القاضي ويجيء برشوته في يده ليراها القاضي فلا يسمع القاضي إلّا لها ولا ينظر إلّا إليها. وأمّا قوله : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ...) الآية فإنّه كان رخّص له في هذه الآية إن جاءوا أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم إن شاء ، ثمّ نسخ ذلك بعد فقال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) [المائدة : ٤٨] فنسخت هذه الآية الآية الأولى.
قوله : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ
__________________
ـ تعليقا مفيدا وكلاما نفيسا للشيخ أحمد محمّد شاكر في عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير ، ٤ / ١٤٦ ـ ١٤٧.
(١) على تفئة ذلك ، أى على حينه وزمانه ، وعلى إثره.