وهذا دليل على أنّ الحكم قبل تعلّق القطع به وقيام الأمارة عليه بالغ مرتبة الإرادة والكراهة ، مع أنّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى يحتاج إلى دليل ، وليس.
فإنّه ـ بعد تسليم أنّ الأحكام في ذاتها ليست بالغة مرتبة الإرادة والكراهة ـ يحتاج إثبات أنّها بتعلّق القطع أو قيام الأمارة عليها تبلغ مرتبة الفعليّة إلى دلالة دليل. وفي الحقيقة ذلك الدليل هو الذي يوجب تنجّزها بعد فعليّتها بالقطع بوجوداتها الإنشائيّة ، لا القطع بوجوداتها الإنشائيّة ، وإنّما القطع بوجوداتها الإنشائيّة يوجب فعليّتها فقط. ومعلوم عدم قيام الدليل على هذا الترتيب وإنّما هو شيء وهمي ذكره.
اللهمّ إلّا أن يقول : إنّ الدليل عليه هو دليل اعتبار الأصول مع ضرورة وجوب امتثال التكاليف عند القطع بها ؛ فإنّ جعل الأصول حال الجهل وتنجّز الأحكام بالقطع بها لا يتمّ إلّا بأن لا يكون في مرتبة الجهل فعليّة كي لا يلزم تحليل الحرام وتحصل الفعليّة بالقطع ؛ إذ لا يجب متابعة القطع بأحكام إنشائيّة ، لكنّ هذا الاستكشاف إنّما كان يتمّ إن لم يكن هناك طريق آخر به يتخلّص عن الإشكال. مضافا إلى ما عرفت من أنّ ما ذكر خلاف الوجدان ؛ فإنّا حيثما نقطع بأحكام فعليّة ـ أعني الإرادة والكراهة ـ وحيث تقوم عندنا الأمارة على حكم تقوم على حكم فعلي ، وأيّ رواية من رواياتنا دلّت على حكم اقتضائي؟!
فدعوى غيره مصادمة للوجدان ومخالفة للعيان.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه تنحصر الحجّة في باب التكاليف في العلم ، ولا شيء غير العلم بحجّة ولا قابل للحجّيّة ، فلا يكون ما ليس بحجّة حجّة بالجعل بل الحجّة دائما هو العلم.
نعم ، موضوع حكم العقل بالتجنّب في باب الضرر هو الأعمّ من الضرر المعلوم والمقطوع ، وهذا غير حجّيّة الظنّ ، وليست الإطاعة في باب التكاليف بمناط دفع الضرر كي يجب بمناط دفع الضرر المظنون كما يجب بمناط دفع الضرر المقطوع ، بل يجب إطاعة التكليف إن كان في تركه ضرر ـ إمّا ضرر مناط التكليف أو ضرر العقوبة ـ أم لم يكن. ولذا يحكم العقل بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي من غير فرق بين مظنونها ومشكوكها وموهومها.
والحاصل : أنّ الشارع بل كلّ حاكم ملزم بأن يوصل بيانه إلى باب العقل ، ثمّ هو يستريح. وباب العقل هو حكمه بالإطاعة وبعثه نحوها ، وهما مرتّبان على إعلام المولى بالتكليف إمّا