الثاني : أنّا لو قلنا بجعل الأحكام في أدلّة اعتبار الطرق والأمارات فأحكامها أحكام طريقيّة عن مصلحة في جعلها بخلاف الأحكام الواقعيّة ؛ فإنّها عن مصلحة في متعلّقاتها. ولا مضادّة بين حكمين كذلك ؛ لأنّ أحدهما طريقي ليس على طبقه إرادة بل منبعث من إرادة ذيه تحفّظا على الواقعيّات ، وإنّما الإرادة على طبق الآخر الواقعي (١).
ويردّه : أنّ هذا مجرّد لقلقة لسان لا مغزى له ؛ فإنّه لو لم يكن على طبقه إرادة نظير الإنشاءات الصادرة لغير داعي الطلب من التعجيز والتسخير لم يجب إطاعته ، فالإرادة ـ وإن كان الطلب طريقيّا ولأجل درك الواقعيّات ـ حاصلة لا محالة.
ثمّ لمّا رأى المجيب أنّ هذا الجواب لا يتمشّى في غير الأمارات ـ وليت تفطّن بعدم تمشّي جوابه الأوّل أيضا على مبناه في الأصول ـ فأجاب في الأصول عن المحذور ـ وهو ثالث الأجوبة ـ بما حاصله يرجع إلى التزام عدم فعليّة الأحكام الواقعيّة في موارد الأصول ، بمعنى أنّه لا إرادة ولا كراهة على طبق الواقع في ظرف الجهل ، فلا يلزم اجتماع حكمين ضدّين أو نقيضين أو طلب ضدّين.
ولمّا رأى أنّ هذا يؤدّي إلى الفساد ، وألا تتنجّز الأحكام الواقعيّة بالقطع بها أو قيام أمارة عليها ؛ لأنّها إذا كانت في ظرف الجهل إنشائيّة محضة كان العلم من العالم متعلّقا بهذا الإنشائي الموجود في مرتبة الجهل ، وقد تقدّم أنّ القطع بحكم إنشائي لا أثر له ، ولا يوجب تنجّز المتعلّق ، فالتزم بأنّ الواقع بمثابة لو علم أو قامت عليه أمارة لتنجّز ، يعني انقدحت الإرادة بسبب العلم بها ، وأيضا تنجّزت بنفس ذلك العلم.
وحاصل ذلك يرجع إلى أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه ، يعني أنّ الحكم الإنشائي بالقطع به يبلغ مرتبة الفعليّة ثمّ التنجّز. فالحكم قبل العلم حيث إنّه لم يبلغ مرتبة الإرادة فلا مانع من جعل الإباحة على خلافه ، وحيث إنّه يبلغ بالعلم من العالمين مرتبة الفعليّة وجب على العالمين الإطاعة فاجتمعت الكلمتان ، والحمد لله تعالى (٢).
وأنت خبير بأنّا نحن لا نقطع ـ حيثما نقطع ـ إلّا بحكم فعلي ، ولا تقوم الأمارة حيثما تقوم إلّا على حكم فعلي.
__________________
(١) كفاية الأصول : ٢٧٧ و ٢٧٨.
(٢) كفاية الأصول : ٢٧٨.