ظاهر وبالفاء بانفصال خفي ، يعني كثيرا من أهل القرى الظالمين أهلكناهم بظلمهم (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) [١١] خير منهم فسكنوا ديارهم.
(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢))
(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي لما رأى المهلكون بحاسة البصر عذابنا (إِذا هُمْ مِنْها) أي من القرية (يَرْكُضُونَ) [١٢] أي يهربون مسرعين ، الركض تحريك الرجلين على الفرس للعدو.
(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣))
فثم قالت الملائكة لهم (لا تَرْكُضُوا) أي لا تهربوا كهيئة الاستهزاء ، والقول محذوف (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ) أي نعمتم وخولتم (فِيهِ) من أمر دنياكم (وَمَساكِنِكُمْ) التي كنتم فيها (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) [١٣] أي يسألكم الناس عن نوازل الخطوب عليكم بأعمالكم الخبيثة وعن فعلكم (١) نبيكم من القتل وغيره وعدم إيمانكم به.
(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤))
فثم (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [١٤] بترك الإيمان بنبينا وقتله ، فاعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف ، روي : «أن قرية من قرى اليمن اسمها حصورا قد جاءها رسول من الله فكذبوه وقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر فقتلهم وهزمهم» (٢) ، فقالت لهم الملائكة ذلك حين انهزموا من منازلهم.
(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))
(فَما زالَتْ تِلْكَ) أي كلمة الويل وهي قولهم (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ دَعْواهُمْ) خبر «ما زالت» ، وهي بمعنى الدعوة ، أي نداؤهم إذ المولول كأنه ينادي ويقول يا ويل تعال ، فهذا وقتك (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي مثل حصيد وهو الزرع المحصود ، ووحد لتقدير المثل وهو مفعول ثان ل «جعلنا» ، وكذلك (خامِدِينَ) [١٥] وتعدد المفعول الثاني كما يتعدد الخبر ، وقيل هما في حكم المفرد نحو هذا حلو حامض (٣) ، أي مز ، وقيل (خامِدِينَ) صفة (حَصِيداً)(٤) ، ومعناه صائفين مثل الرماد لا يتحركون.
(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦))
(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أصناف الخلائق والعجائب (لاعِبِينَ) [١٦] حال من ضمير الفاعل في (خَلَقْنَا) ، أي ما خلقناها (٥) لاهين بها أو عبثا بغير شيء ، بل لمصالح دينية ودنيوية من نظر واعتبار واستدلال لعبادنا بها على وحدانيتنا ومن المنافع والمرافق التي لا تعد مما يحتاجون إليه وليكون خلقنا حجة لنا عليهم يوم القيامة.
(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧))
(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) أي لعبا أو زوجة وولدا بلغة اليمن ، لأنهما للرجل لهو يلهو بهما (لَاتَّخَذْناهُ) أي اللهو (مِنْ لَدُنَّا) أي من عندنا لا من عندكم ، يعني من الملائكة أو من الحور لا من الإنس ، وهو رد لقول النصارى في المسيح أنه ابن الله ، واليهود في عزير أنه ولد الله ، ثم قال (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [١٧] أي إن كنا نفعله ولسنا نفعله ، ويجوز أن يكون (أَنْ) نافية ، أي ما كنا فاعلين لاستحالته في حقنا.
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨))
قوله (بَلْ نَقْذِفُ) إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه منه لذاته ، وبيان لكذبهم وبطلان قولهم في حقه تعالى ،
__________________
(١) وعن فعلكم ، ح ي : أي عن فعلكم ، و.
(٢) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٦٤.
(٣) نقل المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ٥٦.
(٤) وهذا القول مأخوذ عن البيضاوي ، ٢ / ٦٦.
(٥) خلقناها ، و : خلقناهما ، ح ي.