(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢))
(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي لا نظلم منهم أحدا بل نأمر كل نفس بقدر طاقتها وإن لم تبلغ السابقين (وَلَدَيْنا كِتابٌ) أي عندنا كتاب حاضر هو اللوح (يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) بما سطر فيه من الأعمال والأقوال (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [٦٢] أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم.
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣))
(بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي قلوب أهل مكة (فِي غَمْرَةٍ) أي في غفلة (مِنْ هذا) أي من الإيمان (١) أو من الذي أعد لهم من العذاب أو من الوصف الذي ذكرنا للمؤمنين (وَلَهُمْ) أي للمؤمنين (أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي سوى ما عملوا من الخيرات (هُمْ لَها عامِلُونَ) [٦٣] بعد فيثابون ، لأنها صارت عادة لهم فلا يفطمون عنها فيأتيهم الله بالعذاب.
(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥))
قوله (حَتَّى إِذا أَخَذْنا) «حتى» فيه هي التي يبتدأ بها الكلام وهو الجملة الشرطية (مُتْرَفِيهِمْ) أي متنعميهم (بِالْعَذابِ) وهو قتلهم بالسيف يوم بدر أو بالجوع حين دعا عليهم النبي عليهالسلام ، وهم أهل قريش حين قال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف عليهالسلام» (٢) ، فقحطوا حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) [٦٤] جواب (إِذا) الشرطية ، و (إِذا) فيه بمعنى الفاء الجزائية ، أي يصيحون ويتضرعون إلى الله استغاثة حين نزل بهم العذاب قلنا (لا تَجْأَرُوا) أي لا تصرخوا (الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) [٦٥] من عذابنا.
(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦))
(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي القرآن يعرض عليكم (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) [٦٦] أي ترجعون إلى شرككم.
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧))
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي متعظمين بالبيت العتيق (٣) ، واستكبارهم به أنهم كانوا يقولون لا يغلب أحد علينا ، لأنا أهل بيت الله ويفتخرون به ولم يسبق ذكر البيت لكونه معلوما عندهم أو الضمير في (بِهِ) للقرآن أو لمحمد عليهالسلام ، أي مكذبين به ، لأنهم إذا سمعوا القرآن أو رأوا محمدا عليهالسلام كذبوهما وازدادوا كبرا ، قوله (سامِراً) حال بعد حال ، قيل : هو اسم جمع كالحاضر (٤) ، والسمر الحديث بالليل ، لأنهم كانوا يسمرون بالقرآن وطعنه حول البيت بالليل ، وكذا بمحمد صلىاللهعليهوسلم وطعنه بتسميته شاعرا أو ساحرا ، وقوله (تَهْجُرُونَ) [٦٧] حال أخرى ، من هجر إذا ترك ، أي تهجرون الإيمان بالله والقرآن ، والهجر بالفتح الهذيان وهو ترك الصواب وبالضم الفحش في المنطق.
(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨))
(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي القرآن ، والتدبر إحضار القلب للفهم ، يعني أفلم يحضروا قلوبهم في القرآن ليعلموا أنه الحق فيؤمنوا به وبمن جاء به (أَمْ جاءَهُمْ) أي بل أجاءهم من الأمان من العذاب (ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) [٦٨] أي الأمم المتقدمة ، ولذلك أنكروه ، والمعنى : بل أجاءهم من الأمر الشديد ما لم يأت أباءهم الأولين كابراهيم وإسمعيل وأولاده حين خافوا الله وآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه ، فان هؤلاء من عدنان وقحطان.
__________________
(١) بالقرآن ، + ي.
(٢) رواه مسلم ؛ المساجد ، ٢٩٤ ، ٢٩٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ١٥٣.
(٣) العتيق ، ح ي : ـ و.
(٤) أخذ المفسر هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ١٠٥.