وقد مرت القصة (١) ، ثم قال لقمان لابنه حين قال «يا أبي» : «إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟» (٢)(يا بُنَيَّ إِنَّها) أي إن الخطيئة التي تعمل أو الهنة وهي الشيء اليسير من العمل أي عمل كان (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) بالنصب ف «كان» ناقصة ، أي إن تك السيئة أو الحسنة قدر مثقال حبة (مِنْ خَرْدَلٍ) أي زنة حبة من حب الخردل ، والرفع ف «كان» تامة (٣) ، وأنث ال «مثقال» لإضافتها إلى الحبة أو بمعنى الحسنة أو السيئة ، خاطب به ابنه للتهديد فقال : يا بني لو كان عملك أصغر شيء كحبة الخردل (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أي في أخفى موضع كجوف صخرة ما في الماء لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء أو في الصخرة التي هي تحت الأرض ، وهي السجين فيها كتب أعمال الكفار (أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) أي في العالم العلوي أو السفلي (يَأْتِ بِهَا) أي بتلك الهنة (٤)(اللهُ) يوم القيامة فيجازى بها عاملها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يتوصل علمه إلى كل خفي (خَبِيرٌ) [١٦] أي عالم بكنهه وبمكانه لا يفوته شيء.
(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧))
(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالخير (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عن الشرك وابدأ بنفسك (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الأذى ممن تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، ويجوز أن يكون عاما في كل ما يصيبه من المحن (إِنَّ ذلِكَ) أي الذي ذكر من الأوامر (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [١٧] أي مما عزمه الله عزم إيجاب وإلزام ، يعني قطعه قطع الفرض والوجوب ، يقال هذا عزمة الملك إذا لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله ، أي لم يجز تركه.
(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨))
(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) بالتشديد وبالألف مع التخفيف (٥) ، أي لا تعرض عن الناس وجهك تجبرا ، من الصعر وهو داء يصيب البعير يلوي به عنقه ، المعنى : أقبل على الناس بوجهك تواضعا ولا تولهم بشق وجهك عند السّلام وغيره كما يفعله المتكبرون (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي مشي مرح أو مصدر في موضع الحال ، أي مرحا أشرا أو مفعول له ، أي لأجل المرح ، يعني لا يكن غرضك البطر والأشر كمشي أصحابك لبطالة لا لكفاية مهم ديني أو دنيوي (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) أي متبختر في مشيته (فَخُورٍ) [١٨] على الناس.
(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))
(وَاقْصِدْ) أي اعدل (فِي مَشْيِكَ) حتى يكون مشيا بين مشيين ، أي بين الإسراع والدبيب ، يعني لا تمش كمشي الشطار ولا كمشي الزاهد المتماوت ، وعليك الوقار والسكينة (وَاغْضُضْ) أي انقص (مِنْ صَوْتِكَ) واخفضه ، في محل الخطاب ولا تجهر به إلا في الإرهاب للعدو ، قوله (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) من باب ضرب المثل بما هو المعروف بين الناس ، أي أوحشها وأقبحها (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [١٩] المعروف بالقبح عندكم ، لأن أوله زفير وآخره شهيق كصوت أهل النار وذكر الحمير فيه مبالغة في الذم والتهجين (٦) والترغيب عن رفع الصوت وتنبيه على أنه مما يكرهه الله تعالى أشد كراهة ، والمراد بصوت الحمير صوت هذا الجنس لا صوت كل أحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع.
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ
__________________
(١) انظر سورة العنكبوت (٢٩) ، ٨.
(٢) انظر البغوي ، ٤ / ٤١١.
(٣) «مثقال» : قرأ المدنيان برفع اللام ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢٥١.
(٤) الهنة ، وي : الهيئة ، ح.
(٥) «وَلا تُصَعِّرْ» : قرأ نافع وأبو عمرو والأخوان وخلف بألف بعد الصاد وتخفيف العين ، والباقون بحذف الألف وتشديد العين. البدور الزاهرة ، ٢٥١.
(٦) التهجين ، ح و : التهجير ، ي.