أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) [١٠] أي صحيح الخلق من غير خرس ولا مرض ، ف (سَوِيًّا) حال من ضمير زكريا في (تُكَلِّمَ) ، وذكر «الليالي» هنا و (الْأَيَّامُ) في آل عمران (١) ليدل على أن المنفي من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن ورجع تلك الليلة إلى امرأته فقربها ، ووقع (٢) الولد في رحمها فلما أصبح اعتقل لسانه عن كلام الناس فاذا أراد ذكر الله انطلق لسانه وكان قومه ينتظرونه ليخرج إلى الصلوة.
(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))
(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أي خرج صبيحة حمل امرأته من مسجده متغيرا لونه وحاله فأنكروه صامتا ، وكان من عادته أن يأمرهم بالصلوة ، فقالوا ما لك يا زكريا (٣)(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أشار باصبعه ، وقيل : «كتب على الأرض» (٤)(أَنْ سَبِّحُوا) أي صلوا لله (بُكْرَةً) أي غدوة (وَعَشِيًّا) [١١] وقيل : هو حقيقة التسبيح (٥) ، فعرف بذلك أنه آية الولد.
(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢))
ثم أخبر تعالى أنه وهب له يحيى وقال له (٦)(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) أي أوحى إليه ربه خذ التورية (بِقُوَّةٍ) أي باجتهاد ومواظبة (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) أي أجرينا على لسانه في صغره الحكم ، وهو الفهم للتورية والفقه في الدين ، وقيل : «أعطيناه النبوة» (٧)(صَبِيًّا) [١٢] أي في حال الصبا وهو ابن ثلاث أو سبع سنين ، فقرأ التورية وهو صغير يحكم بها ، قيل : دعاه الصبيان إلى اللعب فقال ما خلقنا للعب وهو ابن ثلاث سنين (٨).
(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣))
(وَ) آتيناه (حَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي رحمة لأبويه وغيرهما ، وأصله الرقة والإشفاق (وَزَكاةً) أي وآتيناه صدقة منا على أبويه وأهل زمانه (وَكانَ تَقِيًّا) [١٣] أي مطيعا لربه ومعرضا عما سواه.
(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))
(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي محسنا إليهما غير عاص لهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) أي قتالا عند الغضب ولا متكبرا (عَصِيًّا) [١٤] أي لم يكن عاصيا لربه.
(وَسَلامٌ) أي السلامة منا (عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) من طعن الشيطان (وَيَوْمَ يَمُوتُ) من الشرك (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [١٥] من هول القيامة ، أراد به أنه منعم بالسلامة في هذه الأحوال العظام الولادة والموت والبعث إلى الموقف ، فانها أوحش الحالات.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦))
ثم أمر الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم بأن يقرأ عليهم ما أنزل عليه جبرائيل من خبر مريم موافقا لعلمهم ليؤمنوا به وبالقرآن فقال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) أي القرآن (مَرْيَمَ) أي خبرها (إِذِ انْتَبَذَتْ) أي حين اعتزلت (مِنْ أَهْلِها) إِذِ) بدل من (مَرْيَمَ) بدل اشتمال ، لأن الأحيان مشتملة على ما فيها (مَكاناً شَرْقِيًّا) [١٦] أي في مكان مما يلي شرقي (٩) بيت المقدس أو من دارها ، يعني تخلت للعبادة نحو المشرق معتزلة عن الناس ، وقيل : قعدت في مشرقة الشمس في دار أهلها وكان الوقت شتاء تفلي ثيابها أو تغتسل من حيضها (١٠) ، وكان موضعها المسجد
__________________
(١) انظر آل عمران (٣) ، ٤١.
(٢) ووقع : وي : فوقع ، ح.
(٣) ثم أخبر تعالى إنه وهب له يحيى وقال له ، + و.
(٤) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٤ / ٤.
(٥) لعل المفسر أخذ هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ٤.
(٦) ثم أخبر تعالى أنه وهب له يحيى وقال له ، ح ي : ـ و.
(٧) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٦١١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٢٠.
(٨) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٢٠.
(٩) شرقي ، وي : الشرقي ، ح.
(١٠) اختصره من البغوي ، ٣ / ٦١٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٥.