فاذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها زوجة زكريا ، وإذا طهرت عادت إلى المسجد.
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨))
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أرخت من أدنى مكان أهلها سترا تستتر به منهم (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) أي جبرائيل (فَتَمَثَّلَ) أي تشبه (لَها بَشَراً سَوِيًّا) [١٧] يعني أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد حسن الوجه سوى الخلق ، أي لم ينتقص من الصورة البشرية شيئا لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه وكان تمثله كذلك ابتلاءلها وسبرا لعفتها ، قيل : قام جبرائيل بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس (١) ، فثم قالت (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) يا شاب (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [١٨] أي ممن يتقي الله ويخشاه ويعطيعه فلا يقربني (٢) ، وإنما قالت ذلك لأن التقي يتعظ بالله ويخاف ، والفاسق يخوف بالسلطان والمنافق يخوف بالناس.
(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠))
(قال) جبرائيل (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ) بأمره ، وقرئ «ليهب» (٣) ، أي الله لك (غُلاماً زَكِيًّا) [١٩] أي ولدا طاهرا ليقارن ذنبا مدة حياته.
(قالَتْ) مريم لجبرائيل (أَنَّى) أي من أين (يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي ولد (وَ) الحال أني (لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي لم يقربني زوج يقال في النكاح مس وفي السفاح زنا أو فجر أو خبث (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [٢٠] أي فاجرة تبغي الرجال ولم تقل «بغية» لأنها وصف غالب على المؤنث كحائض.
(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))
(قالَ) جبرائيل الأمر (كَذلِكِ) أي كما قلت لك أو كما (٤) قلت أنت (قالَ رَبُّكِ هُوَ) أي خلقه بلا فحل (عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي يسير لنبين به قدرتنا (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً) أي علامة على قدرتنا وبه (٥) عبرة (لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) أي نعمة على الخلق ممن آمن به (وَكانَ) خلق عيسى (أَمْراً مَقْضِيًّا) [٢١] أي محكوما بوقوعه لا محالة ، قيل : آنست به فنفخ في فرجها (٦) أو في جيب درعها (٧) أو في كمه (٨) ، وقيل : نفخ من بعيد فوصل النفخ في بطنها (٩).
(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢))
(فَحَمَلَتْهُ) أي حملت عيسى في بطنها عقيب النفخ يدل عليه فاء التعقيب ويشهد عليه ما روي : «أن مدة حمله كانت ساعة» (١٠) ، أي كما حملته وضعته ، وقيل : ثلاث ساعات (١١) ، وقيل : أكثر منها (١٢)(فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أي انفردت بما هو في بطنها من الحمل (مَكاناً قَصِيًّا) [٢٢] أي بعيدا من أهلها وراء الجبل أو وراء الدار وإنما بعدت لئلا تعير بولادتها من غير زوج ، قيل : كانت بنت عشر سنين وقد حاضت قبل ذلك حيضتين (١٣).
__________________
(١) قد أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٥.
(٢) ويخشاه ويعطيعه فلا يقربني ، ح : وتخشاه وتطيعه فلا تقربني ، وي.
(٣) «لأهب» : قرأ البصريان وورش وقالون بخلف عنه بياء مفتوحة بعد اللام ، والباقون بهمزة مفتوحة في مكان الياء وهو الوجه الثاني لقالون ولحمزة في الوقف عليه تحقيق الهمزة وإبدالها ياء خالصة. البدور الزاهرة ، ١٩٨.
(٤) كما ، وي : ـ ح.
(٥) وبه ، و : به ، ي ، ـ ح.
(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.
(٧) عن ابن جريج ، انظر القرطبي ، ١١ / ٩١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٦١٤ ؛ والكشاف ، ٤ / ٥.
(٨) هذا الرأي مأخوذ عن القرطبي ، ١١ / ٩١.
(٩) قد أخذه عن البغوي ، ٣ / ٦١٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٥.
(١٠) عن بن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٦١٤ ؛ والكشاف ، ٤ / ٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٢١.
(١١) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٥ ـ ٦.
(١٢) اختصره المفسر من البغوي ، ٣ / ٦١٤.
(١٣) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٦١٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٦.