(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣))
(فَأَجاءَهَا) تعدية «جاء» بالهمزة ، أي ألجأها (الْمَخاضُ) وهو وجع الولادة ، يقال مخضت الحامل إذا تحرك الولد في بطنها للخروج ، قوله (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) متعلق ب «أجاء» لانتقاله إلى معنى الإلجاء بالاستعمال ، أي إلى أصل النخلة اليابسة لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة ، إذ لم يكن لها قابلة تعينها (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) أي هذا الذي أنا فيه من الشدة ، قالته من فرط الحياء والخجالة من الناس على حكم عادة البشرية لا كراهة لحكم الله (وَكُنْتُ نَسْياً) بفتح النون وكسرها (١) ، هو الشيء الحقير المنسي لحقارته (مَنْسِيًّا) [٢٣] أي متوركا لم اذكر ، وقيل : النسي هو الحيضة (٢) ، أي خرقة الحائض.
(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥))
(فَناداها) أي خاطبها حين سمع جزعها بالولادة (مِنْ تَحْتِها) بفتح الميم ، أي جبرائيل ، لأنه كان في مكان أسفل عنها ، وقيل عيسى حين خرج من بطن أمه (٣) ، يعني من تحت ذيلها وبكسر الميم (٤) ، فالمنادي «عيسى» أو «جبرائيل» والهاء ل «النخلة» (أَلَّا تَحْزَنِي) بولادة عيسى وبمكان القحط تسلية وبشارة لها لما هو معجزة وتظهر به براءتها لشدة ما لقيت ، و «أن» فيه مفسرة للنداء (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [٢٤] أي نهرا صغيرا ، يعني جعله تحت قدميك أو جعله تحت أمرك إن أمرته يجري وإن أمرته يقف ، قيل : ضرب عيسى بعقبه الأرض فظهر عين ماء عذب فجرى النهر اليابس فاخضرت النخلة اليابسة وأثمرت وأينعت ثمرتها (٥) ، فقيل لها (وَهُزِّي) أي حركي أصل النخلة ومدي (إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ) بضم التاء وكسر القاف ، وبفتح التاء والقاف مع التخفيف والتشديد (٦) ، أي النخلة (رُطَباً جَنِيًّا) [٢٥] أي مجنيا أو طريا قبل أوانه ، لأنه كان في الشتاء فوضعت يدها على النخلة فسقط رطبها.
(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))
(فَكُلِي) من الرطب (وَاشْرَبِي) من ماء النهر (وَقَرِّي عَيْناً) بابنك عيسى وبانتفاء التهمة عنك بجري النهر اليابس وباخضرار النخلة اليابسة وإثمارها قبل وقتها ، لأنهم إذا رأوا ذلك لم يستبعدوا ولادة ولد بلا فحل ، سلاها بالسري والرطب من حيث إنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة لا من حيث إنهما طعام وشراب ، ثم قال (فَإِمَّا تَرَيِنَّ) أي إن رأيت (مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) فسألك عن ولدك (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا ، يعني قولي ذلك بالإشارة لا باللفظ ، وكان ذلك (٧) الصوم من الكلام جائزا في شريعتهم لا في شريعتنا ، وقيل : إنها أمرت أن تنذر السكوت لأن عيسى يكفيها الكلام مع السفهاء لتبرية ساحتها (٨) ، وقيل : سوغ لها ذلك القدر يوما بالنطق (٩)(فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [٢٦] أي آدميا فأقامت في غار
__________________
(١) «نسيا» : قرأ حفص وحمزة بفتح النون وغيرهما بكسرها. البدور الزاهرة ، ١٩٩.
(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.
(٣) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٦١٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٦.
(٤) «مِنْ تَحْتِها» : قرأ نافع وحفص والأخوان وخلف وأبو جعفر وروح بكسر الميم وجر التاء الثانية «مِنْ تَحْتِها» ، والباقون بفتح الميم ونصب تاء «تحتها». البدور الزاهرة ، ١٩٩.
(٥) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.
(٦) «تساقط» : قرأ حمزة بفتح التاء الفوقية والقاف وتخفيف السين وقرأ حفص بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف ويعقوب بياء تحتية مفتوحة مع تشديد السين وفتح القاف ، والباقون بالتاء الفوقية المفتوحة وتشديد السين وفتح القاف. البدور الزاهرة ، ١٩٩.
(٧) ذلك ، ح ي : هذا ، و.
(٨) قد اختصره المؤلف من الكشاف ، ٤ / ٧.
(٩) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٤ / ٧.