قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥))
ثم قال تعالى (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) مبتدأ وخبر ، أي الذي قال إني عبد الله إلى آخر كلامه هو عيسى ابن مريم لا مثل ما يقول النصارى إنه إله أو ابنه ، قوله (قَوْلَ الْحَقِّ) بالرفع خبر ثان ، أي هو كلمة الله ، فال (قَوْلَ) بمعنى الكلمة ، و (الْحَقِّ) هو الله ، يعني قال لعيسى كن فكان ، وبالنصب مصدر (١) ، أي أقول قول الحق (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) [٣٤] بالتاء والياء (٢) ، أي يشكون في عيسى ويختلفون ، فيقول بعضهم هو الله ، والبعض ولده ، والبعض شريكه ، والبعض ساحر كذاب ، فأكذبهم الله تعالى به وبقوله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) أي ما كان من نعته اتخاذ الولد ، يعني عيسى وغيره ، وجاء ب (مِنْ) لتأكيد النفي العام (سُبْحانَهُ) أي نزه تنزيها عن صفات المخلوقين ، ثم بين استحالة ذلك بقوله (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [٣٥] بسرعة ، يعني أن من إذا أراد أن يحدث شيئا من كل الأجناس أوجده ب «كن» كعيسى كان منزها عن شبه الحيوان الوالد الذي ينشأ من الولد ، لأنه خلاف المعقول وهو الله تعالى.
(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦))
قوله (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) بالكسر استئناف من «عيسى» أو عطف على مقول القول قبله ، وبالفتح عطف على «بالصلوة» (٣) ، أي أوصاني بقول ذلك (فَاعْبُدُوهُ) أي وحدوه وأطيعوه (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [٣٦] أي الذي أوصاني ربي به دين صحيح وهو الإسلام ، فاتبعوه لصحته واستقامته دون غيره.
(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨))
قوله (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) أي فلولادة مريم عيسى بلا فحل وقع الاختلاف في عيسى ، نزل حين سئلت الأحزاب عن عيسى وهم اليهود والنصارى ، فقالت اليهود هو ولد الزنا وقالت النصارى هو إله الخلق (٤) ، وقيل : هم النصارى الذين تحزبون ثلاث فرق نسطورية ويعقوبية وملكائية حين سئلوا عنه فقالت نسطورية : هو ابن الله أظهره ثم رفعه ، وقالت يعقوبية : بل هو الله هبط في الأرض ثم صعد ، وقالت ملكائية : هو عبد الله ومخلوقه ونبيه (٥) ، فاختلفوا في أمره (مِنْ بَيْنِهِمْ) أي من بين الناس (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [٣٧] أي من شهودهم هول الحساب والجزاء يوم القيامة أو من وقت الشهود أو من مكان الشهود وهو الموقف أو من شهادة ذلك اليوم عليهم أو من شهادة الأنبياء والملائكة عليهم أو من شهادة أعضائهم بالكفر وسوء الأعمال.
ثم هددهم مخبرا بلفظ الأمر الموضوع للتعجب أو لتعجيب الخلق من حالهم بقوله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي ما أسمعهم وما أبصرهم ، يعني ما أيقنهم يوم القيامة أن عيسى لم يكن بولد لله تعالى ولا إله ولا شريك له ، قيل : «معناه لا أحد أسمع وأبصر منهم يوم القيامة حيث يقول الله تعالى لعيسى (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)(٦) الآية» (٧) ، يعني سيسمعون وسيبصرون بما يسوءهم وتصدع قلوبهم أو المراد أن أسماعهم وأبصارهم جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما عميا في الدنيا (يَوْمَ يَأْتُونَنا) ظرف للفعلين (لكِنِ الظَّالِمُونَ) أي لكنهم (الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٣٨] أي في خطأ بين في إغفال النظر والاستماع أوقع الظاهر ، أعني «الظالمون» موقع الضمير إشعارا بشدة ظلمهم حيث أغفلوا النظر والاستماع وقت النفع والإسعاد.
__________________
(١) «الحق» : قرأ الشامي وعاصم ويعقوب بنصب اللام والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ١٩٩.
(٢) أخذ المؤلف هذه القراءة عن السمرقندي ، ٢ / ٣٢٣ ؛ وهذه القراءة موجودة أيضا في الكشاف ، ٤ / ٨.
(٣) «وَإِنَّ اللهَ» : قرأ المدنيان والمكي والبصري ورويس بفتح الهمزة ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ١٩٩.
(٤) اختصره المصنف من القرطبي ، ١١ / ١٠٨.
(٥) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٣٢٤ ؛ والكشاف ، ٤ / ٩.
(٦) المائدة (٥) ، ١١٦.
(٧) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٦٢٠.