(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩))
(وَأَنْذِرْهُمْ) الواو للاستئناف ، أي خوفهم يا محمد (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) أي بيوم الندامة على ما فات منهم وهو يوم القيامة ، قال صلىاللهعليهوسلم : «لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار ولو أساء ليزداد شكرا ، ولا يدخل أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة» (١)(إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) بدل من (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) ، أي إذا فرغ من الحساب واستقر كل فريق في مقره من الجنة والنار وذبح الموت ، فيقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عما يفعل بهم في الآخرة أو عن الاهتمام لذلك المقام بالإيمان والعمل الصالح ، والجملة حال متعلق بقوله (وَأَنْذِرْهُمْ) ، وكذا قوله (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [٣٩] أي أنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين بالآخرة.
(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))
(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ) أي نملك (الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) بأن نهلك سكانها ، ذكر (مَنْ) تغليبا للعقلاء (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) [٤٠] في الاخرة فنجازيهم.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١))
(وَاذْكُرْ) لهم (فِي الْكِتابِ) أي القرآن (إِبْراهِيمَ) أي خبره (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) أي مبالغا في الصدق بجميع ما صدر من الله تعالى أو مصدقا بكل الأنبياء (نَبِيًّا) [٤١] في نفسه كقوله تعالى (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ)(٢).
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢))
قوله (إِذْ قالَ) ظرف ل (صِدِّيقاً) ، وقيل : بدل من (إِبْراهِيمَ) ، والجملة بينهما اعتراض (٣) ، أي واذكر وقت قوله (لِأَبِيهِ) آزر بن تارخ (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي) أي لا ينفع (عَنْكَ شَيْئاً) [٤٢] فيه توبيخ وتنبيه على ضلالته بعبادة جامد لا ينفعه شيء في الدنيا ولا في الآخرة ، قرئ يا أبت بفتح التاء وكسرها (٤) ، والمعنى : أنه خاطب أباه أولا عند دعوته إلى الإسلام مع طلب علة منه في خطئه بالتنبيه عليه بقوله : يا أبت لم تعبد ما ليس بحي مميز سميع بصير مقتدر على الثواب والعقاب نافع ضار ، ومثله ليس أهلا للربوبية والعبودية فأعرض عن عبادة الصنم ووجه وجهك إلى الذي استحق الربوبية والعبودية ، إذ العبادة هي غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية الأنعام ، وهو الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب ، فاذا وجهت العبادة إلى غيره لم يكن إلا ظلما وغيا وكفرا.
(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣))
ثم ثنى دعوته إلى الحق بالتلطف والترفق (٥) به فقال (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) شيء ليس معك وهو (ما لَمْ يَأْتِكَ) من الله ، يعني علم الدلالة على الطريق السوي (فَاتَّبِعْنِي) ولا تستنكف عن التعلم مني انجك من طريق الضلالة (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) [٤٣] أي مستقيما.
(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤))
ثم ثلث دعوته إلى الحق بقوله (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) لأنك إذا عبدت الصنم فقد عبدت الشيطان (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) [٤٤] أي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع النعم من عنده ، وهو عدوك الذي لا يريد بك إلا كل خزي وهلاك ، وهو الذي أغوى آدم وذريته آباءك وأبناء جنسك ، فانك إن حققت النظر عابد الشيطان.
__________________
(١) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٢ / ٥٤١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٦٢١.
(٢) الصافات (٣٧) ، ٣٧.
(٣) وقد أخذ المفسر هذا الرأي عن البيضاوي ، ٢ / ٣٢.
(٤) «يا أبت» : قرأ الشامي وأبو جعفر بفتح التاء ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ١٩٩.
(٥) والترفق ، وي : والرفق ، ح.