(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥))
ثم ربع دعوته بتخويفه سوء العاقبة بقوله (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ) أي أعلم (أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ) قليل (مِنَ الرَّحْمنِ) إن أقمت على الكفر (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) [٤٥] أي قريبا قرينا في النار ، وجعل ولاية الشيطان أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب.
(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦))
(قالَ) أبوه آزر توبيخا لإبراهيم (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) أي أصارف قلبي أنت عن عبادة الأصنام (يا إِبْراهِيمُ) قدم الخبر على المبتدأ للاهتمام ، والأولى كونه مبتدأ و (أَنْتَ) فاعله سد مسد الخبر لئلا يلزم الفصل بين الصفة وما يتعلق بها ، وهو (عَنْ) و «الله» (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن مقالتك هذه وسب آلهتنا (لَأَرْجُمَنَّكَ) أي لأقتلنك بالحجارة أو لأبعدنك من عندي فاحذروني (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [٤٦] أي فارقني زمانا طويلا سالما مني ولا تكلمني.
(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧))
(قالَ) مجيبا له (سَلامٌ عَلَيْكَ) سلام مفارقة لا سلام لطف وإحسان ، لأنه ليس بدعاء له كقوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(١)(سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي بشرط التوبة والإيمان أو كان وعده بالاستغفار له ما دام حيا ، وقيل : إنما استغفر له بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ)(٢) ، لأنه وعده أن يؤمن (٣) ، قيل : جاز ذلك قبل ورود السمع ، لأن العقل لا يأباه بدليل قوله () [١] (٥)(إِنَّهُ) أي إن ربي (كانَ بِي حَفِيًّا) [٤٧] أي بليغا في البر واللطف عودني الإجابة لدعائي.
(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨))
(وَأَعْتَزِلُكُمْ) أي أترككم (وَما تَدْعُونَ) أي (٦) الذي تعبدونه (مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام وأراد بالاعتزال المهاجرة إلى الشام ، فارتحل من كوثى إلى الأرض المقدسة ، ثم قال تواضعا وكسرا للنفس (وَأَدْعُوا) أي أعبد (رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) [٤٨] أي لا يخيبني إذا دعوته ، وفيه تعريض بشقاوتهم بعبادة غيره تعالى.
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩))
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) أي تركهم (وَما يَعْبُدُونَ) أي ومعبوديهم (مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي عوضناه أولادا مسلمين يأنس بهم بدل المشركين المتروكين وبعقوب ولد الولد (وَكُلًّا) أي كل واحد من إبراهيم وإسحق ويعقوب (جَعَلْنا نَبِيًّا) [٤٩] أي أكرمناهم بالنبوة ، قيل : «من هاجر في طلب رضاء الله أكرمه الله في الدنيا والآخرة» (٧).
(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))
(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) أي من نعمتنا المال والولد والحكم وحذف المفعول ليعم كل خير ديني ودنيوي (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [٥٠] أي ذكرا حسنا في أهل الأديان كلهم ، يعني هم يحبون إبراهيم وأولاده ويعبدون دينه بزعمهم.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١))
ثم قال تعالى (وَاذْكُرْ) يا محمد (فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) بفتح اللام ، أي معصوما من الكفر
__________________
(١) القصص (٢٨) ، ٥٥.
(٢) الشعراء (٢٦) ، ٨٦.
(٣) نقله المصنف عن الكشاف ، ٤ / ١١.
(٤) الممتحنة (٦٠) ، ٤.
(٥) قد أخذه عن الكشاف ، ٤ / ١١.
(٦) أي ، ي : ـ ح و.
(٧) عن بعض الحكماء ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٢٥.