فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي المارة من المسافرين (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ما تقولون لا محالة ، فليكن هذا الذي أقول لكم ، فهو أقرب حالا من قتله ، أو نفيه وتغريبه.
فأجمعوا رأيهم على هذا ، فعند ذلك (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ* قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ). طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف ، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم ، وأن يلعب وينبسط ، وقد أضمروا له ما الله به عليم.
فأجابهم الشيخ ، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم : يا بني يشق على أن أفارقه ساعة من النهار ، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه ، فيأتي الذئب فيأكله ، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه.
(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة ، إنا إذا لخاسرون ، أي عاجزون هالكون.
وعند أهل الكتاب : أنه أرسله وراءهم يتبعهم ، فضل عن طريق حتى أرشده رجل إليهم ، وهذا أيضا من غلطهم وخطئهم في التعريب ؛ فإن يعقوب عليهالسلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم ، فكيف يبعثه وحده.
(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ* قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ، وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ* وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ* وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).
لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم ، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه ، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال ، وأجمعوا على إلقائه في غيابة الجب ، أي في قعره على راعونته ، وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها الماتح ، وهو الذي ينزل ليملأ الدلاء إذا قل الماء ، والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح.
فلما ألقوه فيه ، أوحى الله إليه : أنه لا بد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها ، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا في حال أنت فيها عزيز ، وهم محتاجون إليك خائفون منك ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)
قال مجاهد وقتادة : وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك ، وعن ابن عباس : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها رواه ابن جرير عنه.