(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي ليس الأمر كما ذكرتم ، لم يسرق فإنه ليس سجية له ولا خلقه. وإنما (سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
قال ابن اسحاق وغيره : لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبا على صنيعهم (١) في يوسف قال لهم ما قال. وهذا كما قال بعض السلف : إن من جزاء السيئة السيئة بعدها!
ثم قال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) يعني يوسف وبنيامين وروبيل ، (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) أي بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة (الْحَكِيمُ) فيما يقدره ويفعله ، وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة.
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عن بنيه (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم ، وحرك ما كان كامنا ، كما قال بعضهم :
نقّل فؤادلك حيث شئت من الهوى |
|
ما الحب إلا للحبيب الأول |
وقال آخر :
لقد لامني عند القبور على البكا |
|
رفيقي لتذراف الدموع السوافك (٢) |
فقال أتبكي كلّ قبر رأيته؟ |
|
لقبر ثوى بين اللّوى فالدكادك (٣) |
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى |
|
فدعني فهذا كله قبر مالك |
وقوله : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي من كثرة البكاء. (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مكظم (٤) من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف.
فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق «قالوا» له على وجه الرحمة والرأفة به والحرص عليه (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ).
يقولون : لا تزال تتذكره (٥) حتى ينحل جسدك وتضعف قوتك ، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك.
(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يقول لبنيه : لست أشكو إليكم ولا لأحد من الناس ما أنا فيه ، وإنما أشكو إلى الله عزوجل ، وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا ، وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع ، ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى : ولهذا قال : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
__________________
(١) و : صنعهم.
(٢) السوافك : المذروفة المنصبة.
(٣) اللوي : ما التوى من الرمل. والد كادك : ما استوى منه وتلبد.
(٤) و : مكمد.
(٥) و : تذكره.