والمقصود أن فرعون احترز كل الاحتراز ألا يوجد موسى ، حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالى ، ويعلمون ميقات وضعهن ، فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته.
وعند أهل الكتاب : أنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان ، لتضعف شوكة بني إسرائيل ، فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم.
وهذا فيه نظر ، بل هو باطل. وإنما هذا في الأمر بقتل الولدان بعد بعثة موسى ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا).
فالصحيح أن فرعون إنما أمر بقتل (١) الغلمان أولا ، حذرا من وجود موسى.
هذا ، والقدر يقول : يا أيهذا (٢) الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده وسلطة بأسه واتساع سلطانه : قد حكم العظيم الذي لا يغالب ولا يمانع ، ولا تخالف أقداره ، إن هذا المولود الذي نحترز منه ، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى ، لا يكون مرباه إلا في دارك وعلى فراشك ، ولا يغذى إلا بطعامك (٣) وشرابك في منزلك وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتفداه ، ولا تطلع على سر معناه ، ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه ، لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين ، وتكذيبك ما أوحى إليه ، لتعلم أنت وسائر الخلق ، أن رب السموات والأرض هو الفعال لما يريد ، وأنه هو القوي الشديد ، ذو البأس العظيم ، والحول والقوة ، والمشيئة التي لا مرد لها!
وقد ذكر غير واحد من المفسرين : أن القبط شكوا الى فرعون قلة بني إسرائيل ، بسبب قتل ولدانهم الذكور ، وخشي أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار ، فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو إسرائيل يعالجون فأمر فرعون بقتل الأبناء عاما وأن يتركوا عاما فذكروا أن هارون عليهالسلام ولد في عام المسامحة عن قتل الأبناء ، وأن موسى عليهالسلام ولد في عام قتلهم ، فضاقت أمه به ذرعا واحترزت من أول ما حبلت ، ولم يكن يظهر عليها مخايل الحبل. فلما وضعت ألهمت أن اتخذت له تابوتا ، فربطته في حبل وكانت دارها متاخمة للنيل ، فكانت ترضعه ، فإذا خشيت (٤) من أحد وضعته في ذلك التابوت ، فأرسلته (٥) في البحر ، وأمسكت طرف الحبل عندها ، فإذا ذهبوا استرجعته إليها به (٦).
قال الله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ
__________________
(١) و : كان يقتل الغلمان أولا.
(٢) و : يا أيها الملك.
(٣) و : إلا من طعامك.
(٤) و : فإذا أحست.
(٥) و : وأرسلته.
(٦) ذكر الطبري هذا الخبر مطولا في تاريخه (١ / ٣٨٨ ، ٣٨٩ / معارف).