يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة ، وما أقامة الكليم على فرعون اللئيم ؛ من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية.
وذلك أن فرعون ـ قبحه الله ـ أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى ، وزعم أنه الإله (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى). (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي).
وهو في هذه المقالة معاند ، يعلم أنه عبد مربوب ، وأن الله هو الخالق البارىء المصور ، الإله الحق كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
ولهذا قال لموسى عليهالسلام على سبيل الإنكار لرسالته ، والإظهار أنه ما ثم رب أرسله :
(وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) لأنهما قالا له : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) كأنه يقول لهما : ومن رب العالمين؟
الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟
فأجابه موسى قائلا : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) يعني رب العالمين خالق هذه السموات والأرض المشاهدة ، وما بينهما من المخلوقات المتعددة (١) ، من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق. وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين.
«قال» أي فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ) من امرائه ومرازبته ووزرائه ، على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليهالسلام : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) يعني كلامه هذا.
«قال» موسى مخاطبا له ولهم : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم ، من الآباء والأجداد ، والقرون السالفة في الآباد ؛ فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ، ولا أبوه ولا أمه ، ولا يحدث من غير محدث ، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين. وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).
ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ، ولا نزع من ضلالته ، بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه : (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة (٢) المسير للأفلاك الدائرة ، خالق الظلام والضياء ، ورب الأرض والسماء ، والأولين والآخرين ، خالق الشمس والقمر ، والكواكب السائرة ، والثوابت الحائرة ، خالق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون ، وفي فلك يسبحون ، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون. فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء.
__________________
(١) م : المتجددة.
(٢) و : النيرة.