فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه (١) ولم يبق له قوى سوى العناد ، عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته : (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ* قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ).
وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما ، وهما العصا واليد ، وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم ، الذي بهر به العقول والأبصار ، حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، أي عظيم الشكل ، بديع في الضخامة والهول ، والمنظر العظيم الفظيع الباهر ، حتى قيل إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه ، أخذه رهب (٢) شديد وخوف عظيم ، بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم ، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة ، فانعكس عليه الحال.
وهكذا لما أدخل موسى عليهالسلام يده في جيبه ، واستخرجها ، أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نورا يبهر الأبصار ، فإذا أعادها إلى جيبه (٣) [واستخرجها](٤) رجعت إلى صفتها الأولى.
ومع هذا كله لم ينتفع فرعون ـ لعنه الله ـ بشيء من ذلك ، بل استمر على ما هو عليه ، وأظهر أن هذا كله سحر ؛ وأراد معارضته بالسحرة ، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته ، كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه ، من إظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وأملئه ، وأهل دولته وملته. ولله الحمد والمنة.
* * *
وقال تعالى في سورة طه : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ، اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي* اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى * قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى * قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى).
يقول تعالى مخاطبا لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه ، وأنعم بالنبوة عليه ، وكلمه منه إليه :
قد كنت مشاهدا لك وأنت في دار فرعون ، وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري ، فلبثت فيها سنين (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) أي مني لذلك ، فوافق ذلك تقديري وتسييري (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي أصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي.
__________________
(١) و : شبهته.
(٢) و : رعبه.
(٣) و : في جيبه.
(٤) من و.