فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة ؛ كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده (١) وقال هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ أرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفضلات. كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ، ليوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك عنه أخلف بوعده ونكث عهده ، حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه ، فخرج بهم ليلا.
فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر : إذا ضربك موسى عبدي بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة ، حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه.
فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصي وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة (٢) أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله عزوجل!
فلما تراءى الجمعان وتقاربا «قال أصحاب موسى : إنا لمدركون» ، افعل ما أمرك به ربك ، فإنه لم يكذب ولم تكذب قال وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ، ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى فلما [أن](٣) جاوز موسى وأصحابه كلهم البحر ، ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر ، كما أمر فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا ربه فأخرجه لهم ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.
* * *
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ؛ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم.
ومضى فأنزلهم موسى منزلا وقال : أطيعوا هارون فإن الله قد استخلفه عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي. وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها.
فلما أتى ربه عزوجل وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما ، وقد صامهن ليلهن ونهارهن ، كره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم ، فتناول موسى شيئا من نبات الأرض فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت؟ ـ وهو أعلم بالذي كان ـ قال يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح. قال : أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك! ارجع فصم عشرا ثم ائتني ؛ ففعل موسى ما أمره به ربه.
__________________
(١) و : أخلف من غده.
(٢) و : فخاف.
(٣) من و.