فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم فقال : إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيها مثل ذلك ، وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكينه لأنفسنا ، فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك متع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد عليه النار فأحرقه ، فقال : لا يكون لنا ولا لهم.
وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ، ولم يكن من بني إسرائيل ؛ فاحتمل موسى وبني إسرائيل حين احتملوا فقضى له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون : يا سامري ألا تلقي ما في يدك؟ وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال :
هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء ، إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون. فقال : أريد أن تكون عجلا فاجتمع ما كان في الحفرة من متع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلا أجوف ، ليس فيه روح وله خوار.
قال ابن عباس : لا والله ما كان فيه صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل من دبره وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك.
فتفرق بنو إسرائيل فرقا ؛ فقالت فرقة : يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربكم ، ولكن موسى أضل الطريق!
وقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ؛ فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه ، وعكفنا عليه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى.
وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا عدم التكذيب به.
فقال لهم هارون عليهالسلام :
(يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ)
[٢٠ / طه : ٩٠]
ليس هذا.
قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا؟ هذه أربعون يوما قد مضت وقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه ويبتغيه.
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال : أخبره بما لقي قومه من بعده ، (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) فقال لهم ما سمعتم مما في القرآن (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) وألقى الألواح من الغضب. ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له ، وانصرف (١) إلى السامري فقال له : ما حملك على
__________________
(١) و : فانصرف.